[ ص: 5275 ] تنزيل القرآن وضرب الأمثال
قال (تعالى):
وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا
أدى جحود المشركين لمعنى النبوة والرسالة الإلهية إلى أن يتقحموا في كلام غير معقول؛ وأداهم تكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزته إلى أن يقولوا كلاما لا موضوع له إلا أن يريدوا توهينه.
[ ص: 5276 ] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ " لولا " ؛ هنا للحض والتحريض على قدر ما تدركه عقولهم؛ وكأنهم في هذا يعيبون القرآن; لأنه نزل مفرقا؛ ولم ينزل دفعة واحدة؛ ويعيبون إعجازه؛ لأنه نزل أجزاء مفرقة؛ وكل ذلك لتسويغ أفكارهم وكفرهم؛ وقد رد - سبحانه - قولهم بقوله - عز من قائل -:
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ؛ وقد ذكر - سبحانه وتعالى - حكمتين في نزوله مفرقا على أجزاء؛ تنزل في أوقات متفرقة؛ أولاهما: هي إيناس النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وتثبيت قلبه على الدعوة باستمرار الوحي نازلا بالقرآن لا ينقطع؛ وهذه الحكمة أشار إليها - سبحانه - بقوله:
كذلك لنثبت به فؤادك ؛ أي: أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك فتعرف بالوحي المستمر أن الله معك؛ الثانية: أشار إليها - سبحانه - بقوله: " ورتلناه ترتيلا " ؛ و " الترتيل " ؛ هو قراءة القرآن الكريم على نسق منسق مصور للمعاني الجليلة في التلاوة؛ فيتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتلا؛ ثم يقرؤه لغيره من القراء من أصحابه كذلك؛ وبذلك يتواتر القرآن مرتلا؛ كما أقرأه
جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وكما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه؛ فالقرآن الكريم ليس متواترا بلفظه فقط؛ بل بلفظه وترتيله؛ فقد علم
جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما جاء في قوله (تعالى):
لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ؛ وقال (تعالى):
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث
وإن
العرب كانوا أمة أمية؛ فما كان فيها كاتب عنده القدرة على أن يكتب القرآن كله؛ ولأن
الله (تعالى) تكفل أن يحفظ كتابه من غير تحريف ولا تبديل؛ ليحفظه إلى يوم القيامة؛ فكان ذلك بحفظه في الصدور؛ وإن ما يحفظ على قرطاس يسهل تحريفه أو تبديله أو حذف جزء منه؛ أما ما يحفظ في الصدور فإنه يكون في وعي لا يغير؛ ولا يبدل؛ ولما أراد اليهود في
أفريقيا أن يحرفوا في كتابة المصحف؛ كان الحفاظ وراءهم؛ وقد ردوا كيدهم في نحورهم.