وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ ص: 1286 ] بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة كذب اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين سبقوه، ومن جاء بعد هؤلاء وأولئك، كيف كانوا يكذبون في الوقائع البدهية، فيدعون أن
إبراهيم أبا الأنبياء كان يهوديا أو نصرانيا وكيف كان اليهود وغيرهم يدعون أن هداية الله حكر احتكروه، وهي في حرزهم لا تخرج عنهم إلى غيرهم، وقد اندفعوا إلى النفاق بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، ثم اندفعوا إلى خيانة الأمانات المادية، وأكل أموال الناس باسم أنهم الصنف الممتاز في هذه الأرض الذي يباح له كل شيء. وفي هذه الآيات التي نتكلم الآن في معانيها السامية قد أعظموا في البطلان كما يحكي رب العالمين، فكذبوا على الله تعالى، وهذا الكذب هو أصل الداء، وأبعد غايات الافتراء، كذبوا على الله فحرفوا الكتاب، وقرءوا أهواءهم على أنها من عند الله، وما هي من عند الله، وعلى أنها من الكتاب وما هي من الكتاب ولذا قال تعالى:
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب هذا من عدل القرآن الكريم في حكمه على الطوائف والجماعة، لا يعمم الحكم على الجماعة كلها، ولكن يخص بالذكر الذين ارتكبوا ابتداء كبر الشر، وإن عم ضلالهم من بعد الطائفة كلها، ولهذا نسب التحريف ابتداء إلى طائفة منهم، وإن كان الضلال شاملا.
ولي اللسان معناه: فتله عند النطق لتوجيه الكلام نحو معنى لا يقصد من ظاهر اللفظ، وهذا يشمل معاني كثيرة، فيشمل إخفاء بعض الحروف عند النطق بكلمة، فيتغير المعنى، كمن يقول: ( السلام عليكم ) فيخفي ( اللام ) فتصير الكلمة " السام عليكم " ويكون المعنى مناقضا للمعنى الأصلي، إذ السلام هو: الأمن، والسام هو: الموت، والأول دعاء له، والثاني دعاء عليه، ومن اللي، أن يغير لفظا بلفظ آخر، ويومئ اللفظ الثاني إلى معنى غير المقصود من الأول، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض أهل الكتاب:
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم [ ص: 1287 ] ، فكان لي اللسان أن استعملوا كلمة (راعنا) بدل كلمة (انظرنا) وكلمة (راعنا) - في لغة السريان والعبرانيين - للسب، فهم باختيارها يشيرون إلى معنى السب في هاتين اللغتين، وبذلك يطعنون في الدين، ويسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن لي اللسان، أن تقرأ عبارات في الكتاب بنغمته، وهي ليست منه. ومن اللي المعنوي، تحريف المعاني بتوجيهها إلى غير المراد منها.
وبهذه الأنواع الأربعة كان بعض اليهود والنصارى يلوون ألسنتهم بالكتاب أي: عند قراءته، و " الباء " في قوله تعالى: بـ " الكتاب " ؛ بمعنى " في " فهم ينظرون إلى الصحائف التي تحوي التوراة، ويقرءون غير ما فيها بليألسنتهم إما بحذف حروف يغير المعنى حذفها، أو بتغيير كلماتها، أو بقراءة كلام غيرها بنغمتها وتجويده، أو بتحريف معانيها، ليتجهوا إلى معان ليست فيها؛ وليس شيء من هذا في الكتاب الذي يوهمون سامعيه أنه منه، وليس منه، وبذلك ضلوا وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، وإن ذلك هو أصل الشر فيهم، وأصل فساد الاعتقاد عندهم.
والضمير في قوله سبحانه:
لتحسبوه من الكتاب وفي:
وما هو من الكتاب يعود إلى ما لووا به ألسنتهم؛ وتكرار الكتاب في النفي، لبيان شدة براءة الكتاب المنزل على موسى
وعيسى - عليهما السلام- مما يدعون ويفترون.
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون في هذا النص السامي بيان مدى الخطورة في لي ألسنتهم بالكتاب، وإيهام الناس أن ما يقرءون وما يقولون من كتاب الله حتى يحسبه الناس كذلك، فإنهم إذ يفعلون ذلك ينسبون لله تعالى ما لم يقله فيقولون: إن كلامهم هو من عند الله، وليس منعند الله، وذكر " هو " في كلامهم يفيد إصرارهم على ما يدعون مع علمهم بأنهم يكذبون ويفترون، وذكره في نفي ادعائهم لتأكيد هذا النفي، وبيان أنه منصب على كلامهم، لا على أصل الكتاب، ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في قوله تعالى:
ويقولون هو من عند الله [ ص: 1288 ] تأكيد لقوله
لتحسبوه من الكتاب وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودليل على أنهم لا يعرضون، ولا يورون، وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على
موسى- عليه السلام- كذلك؛ لفرط جراءتهم على الله تعالى، وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة. وقد سجل سبحانه وتعالى عليهم الكذب بقوله سبحانه:
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله في هذه الجملة السامية بيان مقدار جرأتهم في الباطل، وكذبهم على الحق، فهم يكذبون على الله، وهم يعلمون أنهم كاذبون. وقد أكد سبحانه وتعالى شناعة تصوفهم وتبجحهم بأربعة مؤكدات:
أولها: أن كذبهم لم يكن تعريضا، ولا بلسان الفعال، بل كان بالقول الصريح.
وثانيها: أن المفترى عليه هو الله سبحانه وتعالى، فهم لا يفترون على بشر مثلهم، ربما لا يعلم افتراءهم عليه، بل إنهم يكذبون على علام الغيوب الذي يعلم ما تنطق به الألسنة وما تكنه القلوب، وإذا كانوا ينكرون علمه واطلاعه، فقد كفروا بهذا الإنكار قبل أن يكفروا بهذا البهتان.
وثالثها: أنهم يعلمون الحق، وينطقون بالباطل، ويعلمون حكم الله تعالى، ويكذبون عليه، ويتقولون الأقاويل، وهم يعلمون أنها غير صادقة.
ورابعها: أنه أكد علمهم بذكر الضمير، في قوله: (وهم يعلمون) ، أي: هم بأعيانهم وأشخاصهم يعرفون كذبهم، وذلك هو الضلال البعيد.