صفحة جزء
وقد بين - سبحانه وتعالى - تلقي المشركين للقرآن؛ فقال - عز من قائل -: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ؛ فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " ؛ " الذكر " ؛ هنا؛ ليس القرآن كله؛ إنما هو بعض ما ينزل من مواعظ مذكرة؛ وقصص وأحكام تذكر؛ وعبر بلفظ وما يأتيهم من ذكر ؛ على أن ذلك قريب محدث؛ مجرد لمعنى التذكر والتفكر؛ لمن هو أهل لذلك؛ إلا كانت حالهم حال إعراض؛ فالاستثناء من أعم الأحوال؛ والجملة بعد " إلا " ؛ منصوبة في معناها على الحال؛ وإن هذا الذكر من الرحمة بهم; لأن التذكير رحمة؛ ولذا قال (تعالى): وما يأتيهم من ذكر من الرحمن ؛ أي: من الله (تعالى) الذي هو مصدر الرحمة؛ والذي لا يكون منه إلا ما هو رحمة؛ فهم يعرضون عن الذكر؛ وهو رحمة بهم؛ فكل شيء منه رحمة؛ جزاؤه رحمة؛ وعقابه رحمة؛ ومواعظه وشرائعه رحمة؛ و " من " ؛ في قوله (تعالى): " من ذكر " ؛ لبيان عموم الاستغراق؛ و " من " ؛ الثانية؛ للابتداء؛ وبيان من صدر عنه التذكير الذي هو رحمة للعباد؛ و " كانوا " ؛ دالة على استمرارهم في الإعراض؛ كأنه شأن من شؤونهم؛ وحال دائمة من أحوالهم؛ وتقديم " عنه " ؛ عن متعلقها؛ وهي " معرضين " ؛ لأن التقديم يفيد معنى الاختصاص؛ أي: كأنهم لا يعرضون إلا عن الحق؛ ومن فساد نفوسهم لا يعرضون عن باطل؛ بل لا يعرضون إلا عن الحق؛ لأنه يلائم فساد نفوسهم؛ وضلال تفكيرهم.

وقال (تعالى): فقد كذبوا ؛ الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ أي: فإنه يترتب على هذا الإعراض التكذيب؛ أي: بسبب ذلك الإعراض قد كذبوا الحق لما جاءهم؛ وبسبب ذلك سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون؛ و " الأنباء " ؛ جمع " نبأ " ؛ وهو الخبر العظيم الشأن الذي يؤثر في شأنهم؛ وإن المواعظ؛ والذكر الحكيم كان فيه إنذار بما يقع لهم في العاجلة والآجلة؛ ففي العاجلة يجعل الله [ ص: 5338 ] كلمة الذين كفروا السفلى؛ وكلمة الحق هي العليا؛ بتوالي هزائم الشرك؛ حتى تطهر منه أرض العرب؛ وفي الآخرة بعذاب الجحيم؛ ولذا قال (تعالى): فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ؛ الفاء - كما أشرنا - لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ والسبب لتأكيد الوقوع في المستقبل؛ والأنباء هنا: الوقائع التي أنبأ عنها القرآن الكريم؛ والنبي الحكيم؛ فهم يرون هذه الأخبار وقائع تقرع حسهم؛ وتنبه غافلهم؛ وتوجه اليقظ إلى الحق الصريح الواضح البين.

وقوله (تعالى): أنباء ما كانوا به يستهزئون ؛ توبيخ لهم على استهزائهم؛ وقد كان له هذه الوقائع القارعة؛ وتقديم الجار والمجرور على " يستهزئون " ؛ فيه اختصاص نسبي؛ أي: لا يستهزئون إلا بالحق؛ وقلوبهم معرضة؛ ونفوسهم مصروفة عن الحق إلى الباطل؛ فلا يستهزئون له؛ وهذا تصوير نفسي لانحرافهم عن الجادة؛ والتواء تفكير؛ حتى لا يكون منهم إلا الباطل وتأييده؛ ونصرته.

وإن هذه الآية كقوله تعالي: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

التالي السابق


الخدمات العلمية