ثم ذكر - سبحانه - من بعد ذلك أدلة الوحدانية؛ وأن الله (تعالى) هو المعبود وحده؛ فقال - عز من قائل -:
أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ؛ ذكر - سبحانه وتعالى - في الآية السابقة
آلله خير أما يشركون ؛ بالاستفهام؛ وهو نفي للمعادلة؛ وفي هذه الآية يوضح بطلان الموازنة بين خالق السماوات والأرض؛ والموازن معه محذوف مع تقديره في القول؛ وحذف استهانة به مع ذكر مدلوله في الجملة؛ والمقصود الأول التعريف بالذات العلية - جل جلاله -؛ والمعنى: أم من خلق السماوات والأرض؛ وأنزل لكم من السماء ماء؛ خير أم ما تشركون؟! وذكرت النتيجة: أإله مع الله؟!
و " أم " ؛ في قوله:
أمن خلق السماوات ؛ منقطعة؛ فهي للإضراب الانتقالي؛ وهو يدل على التوبيخ والتبكيت؛ وفي قوله: " أم ما تشركون " ؛ قراءة بالتاء؛ وتكون للخطاب؛ وقراءة بالياء؛ وتكون للغائب؛ والمعنى ظاهر في القراءتين؛ وهو آية
أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء ؛ كأنها تكون تبكيتا صريحا؛ بعد أن كانت في الآية السابقة تبكيتا ضمنا؛ وتصريحا بسبب العبادة وموجب الإذعان والخضوع؛ و " من " ؛ مبتدأ؛ والإضراب الانتقالي فيه معنى الاستفهام؛ والمعنى: ننتقل إلى أمر واضح: أم من خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؛ خير أم ما تعبدونهم؟ وجاء بجملة تحل محل نفس المساواة في المعادلة؛ فقال أإله مع الله؟!
وقال - سبحانه -:
خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء ماء ؛ فيه تعميم لبيان أنه خالق الوجود كله - السماوات والأرض وما فيها -؛ ثم تخصيص النعم القريبة بالذكر؛ وهي التقاء السماء بما فيها والأرض بما فيها؛ من خير للإنسان والحيوان؛ وتكلم عنها بالغيبة؛ لأن الإخبار؛ والإعلام به؛ وهو واضح بين; لأن الخلق؛ وإنزال الماء إلى الأرض؛ وهو من التزاوج بين السماء والأرض؛ ولكن عند
[ ص: 5471 ] نبات الزرع والشجر؛ كان إسناد الإنبات إليه - سبحانه -؛ لكيلا يظن أحد أن ذلك الإنبات من الأخذ بالأسباب والمسببات؛ وأنه فعل طبائع الأشياء؛ وبين الله (تعالى) أن ذلك الإنبات منه؛ وهو فوق الأسباب والمسببات؛ - سبحانه - بديع السماوات والأرض؛ والخالق لكل شيء؛ على غير مثال سبق؛ وقال - بعد ذلك - سبحانه -:
أإله مع الله ؛ أي: أيتساوى الخالق والمخلوق؟! بل أدنى مخلوق؛ والله خير من أوثانهم؛ ودل على عدم التساوي بتوبيخهم على أن يجعلوا مع الله إلها آخر؛ مع هذا التفارق؛ وأنه لا يكون المخلوق كالخالق أبدا؛ ثم قال (تعالى):
بل هم قوم يعدلون ؛ أي: يعدلون عن حكم العقل؛ وحكم المنطق؛ والطريق المستقيم؛ وكان التعبير بالمضارع لتصوير عدولهم عن الحق إلى الباطل؛ ومن العقل إلى الهوى؛ ألا ساء ما يقولون؛ وما يفعلون.
وقوله - بالنسبة لإنبات الحدائق - فيه إشارتان بيانيتان؛ الأولى: أنه عبر بالإنبات للأشجار؛ مع أنه في آيات أخريات كان يضيف الإنبات إلى الزرع؛ ويعبر عن خلق الأشجار بقوله (تعالى):
فالق الحب والنوى ؛ وذكر الإنبات هنا بالنسبة للحدائق ذات الأشجار الوارفة الظلال; لبيان عظيم قدرته في أنه ينبت هذه الدوحات والأشجار العظام؛ ويتعهد من حال النبات؛ حتى يصير فيحاء ذات بهجة وزينة؛ ويسر الناظرين مرآها؛ ويسر الناظرين ثمرها اليانع؛ وقطوفها الدانية؛ الثانية: هي قوله (تعالى):
ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ؛ " كان " ؛ هي " كان " ؛ الناقصة؛ ونفيها معناه نفي الكينونة؛ أي: ليس في وجود؛ ولا كيان؛ أن لكم؛ أي: في قدرتهم؛ أن تنبتوا شجرها؛ إنما ينبتها العزيز الرحيم؛ والخلاق العظيم.