والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب ، فتخشع قلوبهم لذكر الله ، ويقيمون
[ ص: 109 ] الصلاة فتتجه قلوبهم إليه ، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف .
بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجل صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن ، وبالقرآن المنزل من عند الله العلي الحكيم ، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفي الكتب التي أنزلت ، لا يفرقون بين أحد من رسله ، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها .
فقوله تعالى :
والذين يؤمنون بما أنـزل إليك هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، وتكرار (الاسم ) الموصول في قوله تعالى :
والذين يؤمنون بما أنـزل إليك لا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات ، إنما يدل على المغايرة في الصفات ، وإن كان الموصوف واحدا ، كما يقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وقد ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى :
والذين يؤمنون بما أنـزل إليك إلى آخر الآية . إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=showalam&ids=106كعبد الله بن سلام وغيره ، وينطبق عليهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=652789ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته ، فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها .
والحق أن فصل
والذين يؤمنون بما أنـزل إليك عن سياق ما قبلها من غير دليل - مخالفة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك ، والسياق واضح متسق
[ ص: 110 ] على أن ذلك كله وصف للمتقين ، فهم لإيمانهم بالحق ، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين ، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مصغين إلى تكليفه ، مؤمنين بغيبه مقرين بحق عباده ، وهم من كل خلق الله ، لا فرق بين عربي وكتابي ، ولا من كان أصلا وثنيا ، أو كان يهوديا أو نصرانيا ، فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه ، فالآية تشتمل عليه ، ولا يخرج عنها ، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص .
والذي أنزل إليك في قوله تعالى :
يؤمنون بما أنـزل إليك هو القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع ، وما جاء به من أخبار الماضين ، وقصص الغابرين ، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله ، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله ، وإنه يرد ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه ، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل ، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه ، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن ، إذ قال :
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن وما سمعوا إلا جزءا منه .
وإنه لا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه ; لأن الله تعالى يقول :
يؤمنون بما أنـزل إليك وقد ابتدأ النزول ، فابتداء التنزيل المستمر نزول له كله ، كما قال تعالى :
شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن فما نزل فيه إلا أوله ، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين .
وإن الآية الكريمة تبين أن
الإيمان الكامل بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى :
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ولقد روي في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=697437إذا حدثكم أهل الكتاب فلا [ ص: 111 ] تكذبوهم ولا تصدقوهم ، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا ، والذي أنزل إليكم " .
وإن الإسلام دين الوحدانية ، ودين الوحدة الإنسانية ، ودين الرسالة الإلهية التي لا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي ، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه ، ومن لم يصدق فقد كفر .
ولقد قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها ، فأساس الإيمان في هذه الأديان ، وفي كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل ، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة ، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر ، وأنه معتركها ، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها ، فلا بد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير ، وتجزى كل نفس ما كسبت ; ولذلك كان الإيمان بالآخرة ، إيمانا بانتصار الخير على الشر ; ولذلك قال تعالى :
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله
وقوله تعالى :
وبالآخرة هم يوقنون ، فيه الإيقان مصدر أيقن ، وهو إحكام العلم وإتقانه ، بحيث لا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه ، ولا أي حقيقة من حقائقه ، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عيان .
وقد أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل ، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين ، واختصاص ، أي أنه لا يؤمن إلا بالحياة الآخرة ، وما فيها من جنة ونعيم ، وبعث وحساب ، وجحيم ، كأنه رأي
[ ص: 112 ] العين ، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان ، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان ، وكان التأكيد بكلمة (هم ) فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية ، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدا .
وقد يقال ما موضع
وبالآخرة هم يوقنون من قوله تعالى :
يؤمنون بالغيب ؟ ونقول في ذلك إن قوله تعالى :
يؤمنون بالغيب كما فهمنا ، وكما ذكرنا فيه أنهم لا يؤمنون بأن الوجود مادة ، ليس فيما وراءه وجود ، كأولئك الملاحدة الذين يظنون المادة هي " الموجود " وحدها ، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به ، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة ، لا تقول : خلقنا الله عبثا ، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة .
أما قوله تعالى :
وبالآخرة هم يوقنون فهي تخصيص من العموم ، والله ولي المؤمنين في الدنيا والآخرة .
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيبه الله تعالى عنهم ، ودلت عليه الفطرة ، والذين يقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقهم الله تعالى ، ويؤمنون بالرسالات الإلهية ، ويوقنون بالآخرة ، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حكمه - تعالت كلماته - عليهم ، مؤكدا ذلك ، فقال :
أولئك على هدى من ربهم وأولئك : إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات ، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم ، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم ، والبعد عن العذاب الأليم ، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى .
[ ص: 113 ] والتعبير بـ
على هدى بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن ، كما يقال : ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية ، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها ، ولا تفارقه . فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها ، فهم في هداية دائمة مستمرة .
وقوله تعالى :
من ربهم معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربهم الذي ربهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح ، والإيمان واليقين باليوم الآخر ، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها ، لأنها من رب هذا الوجود الذي ربه ونماه وهذبه وأعلاه .
وهنا إشارتان بيانيتان :
إحداهما : الإشارة بالبعيد لوجود اللام ، والبعد هنا بعد المنزلة ، وعلوها وشرفها ، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم ، وسامتوا أعلى العلاء ، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما .
الثانية : تكرار اسم الإشارة أولئك ، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذي حكم الله تعالى عليهم ، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما : الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها ، وركبوا متنها وعلوا عليها ، والحكم الثاني : أنهم ينالون الفوز ، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلو نفوسهم ، واستقامتها ، والاتجاه إلى معالي الأمور ورضا الله تعالى ، وهو أكبر جزاء ، فرضوان من الله أكبر ، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم .
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذي ينالونه بالجملة الاسمية ، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح ، وأنه دائم بدوام من يعطيه ، وهو رب
[ ص: 114 ] العالمين ، وأكده بتعريف الطرفين ، وهما اسم الإشارة ، وكلمة : " المفلحون " ، وتعريف الطرفين يدل على القصر ، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم ، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله ، وفاضوا بخيرهم ، وتحملوا المشاق في سبيلهم ، وآمنوا بكل الرسالات ، ولم يطمعوا بغير أن يعدوا أنفسهم لحكم ربهم .
وأكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو (هم ) فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم ، وأنه لا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم ، واختار مثل طريقهم . . اللهم اجعلنا ممن يقتدي برسلك وبهم ، فإنهم هم الفائزون .
والمفلح - من الفلح بمعنى الشق والقطع ، ويطلق المفلح على الفائز ، فكأنه قد شق الطريق ، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه ، وفاز بمرغوبه ، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد ، وعمل ولغوب حتى نال ما نال ، وذلك هو الفلاح ، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد ، وطلب ، وسير في الطريق إلى غايته ، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا ، وإن
الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية ، حتى ينتصر عليها ، ويصل إلى الملكوت الأعلى ; لأنه وصل بمغالبة وجهاد ، والملائكة لا مغالبة فيهم ; لأن الله خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
* * *