أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ ص: 1426 ] وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين هذه الآية موصولة بما قبلها؛ لأن موضوعهما واحد، إذ الكلام في أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، ومداواة العزيز الحكيم لهذه النفوس بالعبر يسوقها، وسننه تعالى يبينها، وآياته في الآفاق والأنفس يكشفها، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية السابقة
مداولة الله سبحانه في الأمم بالنصر والهزيمة، وأن العاقبة للمتقين، وفي هذه الآيات يبين أن الجماعات تصقل بالمحن، والمجاهدين يتميزون عند وجود الشدائد، وأنه لا تخلص النفوس وتطهر إلا بالاختبار الشديد، ولذا قال تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " أم " هنا إما أن تكون للإضراب، ويكون المعنى: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والإضراب هنا معناه الانتقال من طريق للبيان إلى طريق آخر، ففي الأول بين العبر والسنن بطريق التقرير، وفي هذه الآية يبين سنة أخرى بطريق الاستفهام الإنكاري، وفيه فضل تنبيه وفضل تقرير، والمعنى: أن
سنة الله تعالى في نعيمه أنه لا يستحقه على كماله إلا من بذل المهجة في حياته، وصبر في السراء والضراء، وهذا كقوله تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله وكقوله تعالى:
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
ويصح أن تكون " أم " هنا. للمعادلة، أي: تكون متصلة لا منقطعة، ويكون المعنى على هذا: أعلمتم أن لله تعالى سننا في خلقه وأنه يداول النصر بين الناس،
[ ص: 1427 ] وأن الحرب لا تخلو من فرح ونكاية، أم حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير أن يصيبكم الجرح، وتدموا في الحروب، ويكون منكم شهداء. وقوله تعالى:
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم
المراد من العلم فيها المعلوم، أي: ولما يستبن لكم أمركم، ويظهر لكم جهاد المجاهدين وصبر الصابرين، فالمعنى ظهور علم الله الواقع فيكم وبيانه لكم؛ وذلك لأن الله يعلم الأمور قبل وقوعها، فلا يتصور أن يكون غير عالم حتى تقع، بل المراد وقوع ما علمه الله تعالى وظهوره وكشفه وإعلانه محسا واقعا، بعد أن كان خفيا لا يعلمه إلا علام الغيوب، وقد تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفي المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال: " ولما يعلم الله " ولم يقل: ولما يقع معلوم الله، ونقول: إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم أحد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى أنه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا.
وقد نفى الله تعالى " العلم " بكلمة " ولما " وهي في معنى " لم " ، بيد أنها تمتاز عنها بأنها تنفي الأمر في الماضي والحاضر، وتومئ إلى وقوعه في المستقبل، ففي الآية إيماء إلى أن المعلوم وهو المجاهدون، لم يكونوا معلومين قبل الاختبار، وكانوا بعد الاختبار، وظهرت تلك الصفة فيهم. " ويعلم الصابرين " .
أي ويقع المعلوم الثاني الذي قدره الله تعالى، وهو أن يتميز الصابرون من غيرهم، فالابتلاء الشديد أظهر نوعين من الرجال: أولهما - المجاهدون الذين يخالدون ولا يفرون ولا يولون الأدبار، ولا يذهب ببأسهم قوة عدوهم، وفشل فريق من إخوانهم. والفريق الثاني الذي أظهره هم الذين صبروا ولم تذهب قلوبهم شعاعا، ولم يذهب تفكيرهم، ولم يضع رشدهم، ولم تطش أحلامهم، وقد يقول قائل: إن الجهاد يتضمن الصبر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=846641إنما الصبر عند [ ص: 1428 ] الصدمة الأولى " ، وإن
الصبر عدة الجهاد الأولى، فلماذا خص الصابرون بالذكر، وخص الصبر بالتنويه، ونقول في الإجابة عن هذا السؤال: إن الصبر ولو أنه عدة الجهاد ينفرد بمعنى آخر غير الجلد والصبر تحت حر القتال وفي بريق السيوف، فإن الصبر يتضمن ثبات الفكرة واطمئنان القلب إلى الحقائق المقررة، وعدم طيش الأحلام، فإن الأخبار التي تثبط العزائم في الحروب إذا كانت كاذبة قد يصدقها المجاهد، ولكن شجاعته تدفعه إلى مواصلة القتال، وعدم التأثر، والصابر المطمئن النفس يمحص الأخبار في وسط الاضطراب النفسي، فإذا أشيع في ميدان القتال أن القائد قد قتل، كان الأبرار من الجند فريقين: أحدهما - المجاهدون الشجعان الذين يستمرون على القتال، ولو كان الخبر صادقا، ويندفعون في الميدان. والفريق الثاني المجاهدون الذين نالوا حظ الأولين وكان لهم مع ذلك قدرة على التأمل أصادق الخبر أم كاذب، وإذا كان صادقا حثوا غيرهم على الاستمرار وبينوا لهم أن الواجب صار أشد وأقوى وألزم، فهذا فريق الصابرين، وإن هذا النوع من الصبر هو أعلى أنواع الصبر؛ لأنه ثبات الجنان، وتحمل التبعات بأبلغ أحوالها وأشد صورها، فهو صبر في جهاد الفكر، وجهاد النفس، وتحمل عبء الجاهلين الأغرار، وتولي إرشادهم وتوجيههم.
والنص يفيد أن
الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان، إنما هو محفوف بالمكاره والشدائد، ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=662057حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات " ؛ وذلك لأن المعاصي أسبابها اندفاع الشهوات الإنسانية، وانطلاق الغرائز المنحرفة، فليس فيها جهاد بأي نوع من أنواعه، بل فيها تلذذ وانحراف، وأما الجنة فسبيلها جهاد للنفس ومغالبة للهوى، ومنازلة بين الحق والباطل، وتكليفات يجب القيام
[ ص: 1429 ] بها، وكل هذه مشاق يحتاج احتمالها إلى جهد في دائرة الطاقة، و
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها