إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم هذا بيان لبعض ما جرى للمسلمين في أحد، بعد أن نزل الرماة إلى ميدان الغنيمة في غير الوقت المحدود، وهو يصور جيش الحق، وقد اضطرب بسبب ذلك الغلط الذي كان يبدو صغيرا لمن وقعوا فيه، وله نتائج خطيرة، والصورة البيانية التي تستمد من النص الكريم ترينا كيف كان المقاتلون يسيرون على غير مقصد يقصدون إليه، لا إلى النجاة بأنفسهم يسعون، وقد أحيط بهم، ولا إلى العدو يقصدون، وقد أظهر أنه استعلى عليهم مؤقتا وظنوا هم في أنفسهم الظنون، ولا فوضى في جند أكثر من أن يسير على غير مقصد، وجيش الإسلام وهو في هذه الحيرة وهذا التيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره يدعو جنده قائلا فيما روي عنه: "
إلي عباد الله إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة " .
ومعنى " تصعدون " تسيرون في بطن الوادي؛ لأن الصعود معناه الارتفاع، والإصعاد مغناه السير في بطن الوادي؛ وقال
أبو حاتم في هذا: ( أصعدت إذا أمضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره) . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : أصعدوا يوم
أحد في الوادي. ومعنى " تلوون " تعطفون في سيركم إلى مقصد تقصدونه. ولقد جاء في المفردات للأصفهاني: يقال: فلان لا يلوي على أحد إذا أمعن في الهزيمة.
والمعنى: عفا الله عنكم في الوقت الذي وقعتم فيه في الفوضى والاضطراب، وأصبحتم تسيرون في بطن الوادي لا تقصدون، ولا تبتغون أمرا،
[ ص: 1458 ] ولا تتبعون غاية أيا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء، ولقد ذكر النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهي الغم الشديد، فقال تعالت كلماته:
فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم أثاب معناه: أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته، والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غم الهلال إذا غطاه الغمام فلم ير، والغم يطلق على الألم الذي يغطي العقل والإحساس والمشاعر، والذي يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدري ما الخلاص منه، فهو من الغمة، وقد جاء في أساس البلاغة: " وأنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد للخروج منه " . والباء في قوله تعالى: " بغم " يحتمل أن تكون للسببية، ويحتمل أن تكون بمعنى " على " أو دالة على المصاحبة، وعلى الأول يكون المعنى: أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، ونزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمخالفة وعصيان أمره، وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم أو غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وغم الاضطراب.
وكان ترادف الغموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة إن اعتبرتم واتعظتم، هو: ألا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد. ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف الغموم: " لكيلا تحزنوا: لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار " ، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن أظهر في نظرنا، والله - سبحانه - أعلم بمراده.
[ ص: 1459 ] والله خبير بما تعملون ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى أن ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وأنه
لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.