من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه
* * *
هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبي إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقوله تعالى:
من الذين هادوا يحرفون فيه مبتدأ محذوف يقدر بـ"فريق"، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه.
[ ص: 1701 ] جاء في مفردات
الراغب الأصفهاني : تحريف الكلام أن جعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل:
يحرفون الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه:
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [البقرة].
وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها، وإخفائهم التبشير بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- على غير وجهه، وجعله يحتمل ما لا يراد به، كما سنبين، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه:
وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [البقرة].
فهذا الفريق لا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحملونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل من المعاني، ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي -صلى الله عليه وسلم-:
ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، جمجموا في أنفسهم أو غمزوا به فيما بينهم قائلين:
سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لا مرية فيه، ولا توجد نفس أوغلت في
[ ص: 1702 ] العناد بأكثر من ذلك، وإنهم يردفون ذلك القول العاصي الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون:
واسمع غير مسمع وقولهم:
واسمع المراد به اسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن كلمة
غير مسمع تحتمل ثلاثة وجوه: أولها: أن يكون المعنى الدعاء على النبي الكريم بأن يصاب بالصمم فلا يسمع، أو لا يسمع خيرا قط. والوجه الثاني: أن يكون المعنى غير مسمع كلامك فلا يجاب ولا يقبل. والوجه الثالث: ما ذكره بقوله رضي الله عنه: "ويجوز أن يكون "غير مسمع" مفعول اسمع أي اسمع كلاما غير مسمع إياك; لأن أذنيك لا تعيه نبوا عنه"، وإنا نختار ما عليه أكثر المفسرين، وهو أن يكون مرادهم -لعنهم الله- الدعوة عليه، عليه الصلاة والسلام بعدم السماع، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل، وما أودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، زادهم الله خزيا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، وزاد الله
محمدا -صلى الله عليه وسلم- وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا. وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين، ولذلك حكى الله عنهم ذلك فقال:
وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم: "انظرنا" نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم، وإن كان ذلك موجودا، يقولون:
وراعنا يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم، وهو رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرعونة والسفه، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه، والحق الذي ينفذه. وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم:
وراعنا قال الله تعالى:
لا تقولوا راعنا [البقرة]،
وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين كان ذلك قولا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون:
راعنا أي (احفظنا) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة، وليس ضمير المتكلمين، وذلك لي اللسان وفتله، والطعن في الدين.
[ ص: 1703 ] ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم هذا بيان لما كان ينبغي، والمعنى: لو ثبت لهم أنهم قالوا سمعنا الحق واتبعناه، وكلام الرسول وأطعناه، ولو قالوا للرسول اسمع إجابتنا دعوة الحق، وانظر إلينا نظرة إقبال وعطف ورعاية من غير أن يلووا ألسنتهم، ويحرفوا القول عن موضعه، وما يدل عليه بظاهره، لكان ذلك خيرا لهم; إذ يفتح باب الهداية في قلوبهم ولا يطمس عليها، ولا يكون ذلك الخزي والذل في الدنيا، أدامه الله تعالى عليهم وبدلهم من أمنهم خوفا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ولكان ذلك خيرا لهم
وأقوم أي كان هذا هو الأمر القويم الذي يجب أن يسلكه العقلاء طلاب الهداية. وأفعل التفضيل ليس على بابه، ومعناه أن يكونوا بلغوا من الاستقامة أقصاه، ولكنهم ضلوا ضلالا بعيدا، ولذلك قال سبحانه:
ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي; لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله على بصائرهم، فلم تر الحق ولم تذعن له، فلا يؤمنون، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لا ينفي الإيمان عنهم نفيا مطلقا، بل يقرر أن منهم من يؤمن، ولكنه عدد قليل، ولذا قال سبحانه وتعالى:
فلا يؤمنون إلا قليلا أي إلا عددا قليلا لا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عليهم في جملتهم، وهذا كقوله في آية:
منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [المائدة] - هدانا الله تعالى إلى الحق.
* * *