[ ص: 1733 ] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا
* * *
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن
طاعة الله ورسوله واجبة، وأن
طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت [ ص: 1734 ] ألم تر هذا التعبير قرآني، وهو استفهام سيق للتعجب والإنكار، فيه التعجب وتوبيخ الذين وقع منهم هذا الفعل. وأداة الاستفهام دخلت على النفي، ونفي النفي إثبات. والمعنى: قد رأيت الأمر العجب المستنكر الذي وقع من أولئك الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والزعم يكون فيمن يقول قولا لا يوجد ما يدل على صدقه، والمعنى: قد رأيت حال أولئك الذين يدعون كذبا أنهم يعتقدون ويذعنون للذي أنزل إليك من شريعة عادلة وحاكمة بين الناس بالعدل، وأنهم يؤمنون بالكتب المنزلة وما اشتملت عليها، ومع ذلك يتركون الحق الواضح البين الذي لا شبهة فيه، الذي اشتملت عليه شريعتك وما قبلها، ويتحاكمون إلى الطاغوت، وهو الطغيان الكثير، ولعل المراد به هنا الحكم الذي لا يبنى على الحق، ولا يقوم على أساسه، وليس له نظام وقانون مقرر ثابت، يعرف فيه كل واحد من الخصمين ما له من حقوق وما عليه من التزامات.
وواضح من النص الكريم أن هؤلاء متصفون بصفتين: أولاهما: أنهم يدعون الإيمان وليسوا بمؤمنين، إذ قال سبحانه:
يزعمون أنهم آمنوا
وثانيتهما: أنهم في الأصل من أهل الكتاب الذين يدعون أنهم آمنوا بما أنزل على موسى والأنبياء قبله. وبهذا النص الكريم يتعين أن يكون أولئك من المنافقين من اليهود الذين كانوا يظهرون الإيمان، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، أو من الضعفاء الذين ليس عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على الخضوع لأحكام الله تعالى.
وإن المفسرين قد تكلموا في سبب نزول هذه الآيات، ورووا في ذلك روايات مختلفة، وأقربها إلى معنى الآية أن منافقا اختلف مع يهودي، فأراد اليهودي أن يكون الحكم هو النبي لما يعرف عنه من عدالة وامتناع عن رشوة، ولأنه يحكم بقانون ثابت لا عوج فيه ولا انحراف، وأراد المنافق أن يتحاكما إلى غير النبي -قيل إلى كاهن، وقيل إلى أحد كبار اليهود- وكلا الحكمين لا يمكن
[ ص: 1735 ] أن يكون بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ظالما، حكمه فيه طغيان كثير; لأنه لا يعتمد على قانون منظم للحقوق والالتزامات.
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا كان الله تعالى قد أمرهم أن يكفروا بحكم الهوى والغرض والظلم وبحكم الأوهام والكهنة، واختاروا هم الاحتكام إلى طاغية من طغاتهم، أو كاهن من الكهان، فقد كان ذلك بوسوسة الشيطان المضل في نفوسهم، وهو لا يريد لهم إلا العدول عن الخط المستقيم.
فالضلال هو العدول عن الخط المستقيم، سواء أكان ذلك في المعنويات أم كان في السير الحسي. ومن عدل عن الطريق المستقيم واستمر في غيره، فهو كمن بعد عن الطريق السوي، وسار في متاهات، كلما أمعن بعد. وهؤلاء قد ابتدأوا بالنفاق، فكلما وسوس لهم شيطانهم بالباطل أبعدهم عن الحق وعن طريقه. فمعنى يضلهم ضلالا بعيدا يبعدهم عن الحق الذي ابتدأوا باجتنابه، فصاروا كمن يوغلون في متاهات من الأرض، كلما أوغلوا زادوا بعدا عن الطريق المستقيم.
وإن هذا النص يومئ إلى أنه
لا يتفق مع الإيمان الصادق أن يتحاكم المؤمن إلى غير النظام الذي يقرره القرآن والسنة. ويومئ النص أيضا إلى أن كل تحاكم لغير شريعة الله تعالى وما تقرره من أحكام، هو تحاكم إلى طغيان كبير لا يقوم الحكم فيه إلا على الهوى. ألم تر كل النظم التي تحكم بغير القرآن لا تعاقب الزاني، ولا تعتبر فعله جريمة إلا إذا كان فيه اعتداء على الزوجية أو اغتصاب، أو زنا بقاصرة! وأي طغيان وهوى أعظم من ذلك جرما؟!
ويومئ النص كذلك إلى أن
من يرفض حكم القرآن يخضع لحكم الشيطان، ويضل به ضلالا، كلما سار فيه بعد عن الحق المبين:
* * *