الأرض موطن التكليف
خرج
آدم وزوجه من الجنة ، ولم يكن فيها تكليف إلا أمرهما بألا يأكلا من شجرة معينة ، خرجا إلى هذه الأرض ، وكان التكليف ، وكان اختبار بني
آدم فيها ، وعلى قدر ما يفعلون من خير يكون جزاء الخير ، وعلى قدر ما يكسبون من إثم يكون جزاؤه ، وفي كل نفس استعداد للخير ، وللشر ، والخير هو الأصل ; ولذا قال تعالى :
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، فكانت النفس الأمارة بالسوء بجوار النفس اللوامة فكان الاختبار بعد هبوط الأرض .
قال تعالى بعد قصة الخلق والتكوين :
* * *
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
* * *
جاء التكليف عند نزول الأرض ، وقوله : (قلنا ) معناه أنه أخرج من الجنة ، وقال له تعالى بلسان التكوين : اهبطوا ، والهبوط هنا معنوي أو حسي ، والمعنوي أنهم نزلوا من الجنة حيث كان القرب من الملائكة الأطهار ، وحيث كان العيش رغدا لا مشقة فيه ، ولا جهد ، بل هو راحة واطمئنان - إلى حيث اللغوب والمشقة ، والمعترك الذي يكون فيه الغلب والقهر والانهزام ، وحسي لأنه نزول من مكان عال إلى أدنى منه ، والهبوط المعنوي ظاهر ، ولذا نقتصر عليه ، لأن الحسي غير ظاهر ، وإذا كان الهبوط حيث التكليف فالجميع يهبطون :
آدم وزوجه وإبليس ، والتكليف على الجميع ، فكل ينال أثر عمله .
[ ص: 203 ] وقوله تعالى :
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي يدل على أن الله تعالى يرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، فالهدى الذي يجيء من قبل الله تعالى هو ما يكون بالرسالة الإلهية التي تكون عن طريق من يرسلهم الله تعالى مؤيدين بالمعجزات الظاهرة الباهرة .
وقوله تعالى : (فإما ) فيه " ما " زائدة في الإعراب ، وليست زائدة في البيان ; لأنها دالة على تأكيد الإتيان ; ولذلك يكون بعدها تأكيد الفعل بنون التوكيد الثقيلة تأكيدا وجوبيا عند أكثر علماء البيان ، كالقسم لأن إما في معناه ، بيد أن هذه تأكيد لفعل الشرط ، وهنالك تأكيد لجواب القسم - وإن معنى التأكيد لفعل الشرط أن مجيء الهداية ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه .
وتنكير هدى هنا للتعظيم والتكثير ، فهو هدى يهدي إلى الحق ، ويهدي إلى حياة قويمة مستقيمة ، ويهدي إلى النفع الإنساني العام ، وإلى استخراج ينابيع الأرض مما في باطنها ، وإلى الفضيلة الإنسانية ، والعدالة في كل نواحي الحياة . وجواب الشرط في قوله تعالى :
فإما يأتينكم مني هدى هو قوله تعالى :
فمن تبع هداي فلا خوف أي أن الذين يتبعون ما يجيء به النبيون من رسالات إلهية فإنهم يكونون طائعين خاضعين لأحكام الله تعالى ، محاربين للشيطان وإغرائه ووسوسته ، ولا يعاقبون ; ولذا قال تعالى :
فلا خوف عليهم ، وهو جواب
فمن تبع لأنها هي الأخرى شرط ، فكان جواب
فإما يأتينكم مني هدى جملة شرطية ، أي فيها شرط وجواب ، فقوله تعالى :
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب شرط الثانية .
ومعنى
فلا خوف عليهم أنهم يكونون في أمن من عذاب الله تعالى ، ولا يحزنون على أمر فاتهم ، لأنهم سبقت طاعتهم ، ولا يكونون في حال حزن ، بل في سرور ، وعلى سرر متقابلين .
[ ص: 204 ] وليسوا كالذين يخضعون لوسوسة إبليس ، وإغرائه ، فلا يطيعون ، ويجحدون ، ولذا ذكر عقوبة الأشرار بجوار ثواب الأخيار ليدرك أهل الحق الفرق بين الفريقين ، فقال تعالى :
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وكفروا معناها جحدوا أو ستروا ينابيع الإيمان في قلوبهم ، وأفسدوا فطرة الله تعالى ، وكذبوا بآياتنا .
وآيات الله تعالى آيات كونية ، وهي خلق السماوات والأرض وكل ما في الكون مما يدل على الله تعالى ، وأنه خالق كل شيء ، وآيات تجيء على أيدي الرسل الذين يجيئون بهدى الله سبحانه ، وهي المعجزات التي تدل على أن حامليها رسل من عند الله سبحانه وتعالى العلي القدير ، وآيات تتلى في كتبه .
وقد كذبوا بكل هذه الآيات ، ولذا قال سبحانه وتعالى : (كذبوا بآياتنا ) أي طمس الله تعالى على بصائرهم فلا يدركون حقا ، ولا يذعنون لدليل ، ولو كان من عند العزيز العليم .
وكما ذكر سبحانه جزاء الذين اتبعوا الهدى ، وآمنوا بالحق ، وهو أنهم لا يخافون ، ولا يحزنون ، وذكر الخوف بقوله تعالى :
فلا خوف عليهم أي لا ننزل بهم ما يوجب الخوف .
كما ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالآيات والعظات ، ذكر جزاء الكافرين فقال تعالى :
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
ذكر الله سبحانه وتعالى عقوبتهم في الآخرة بهذا النص السامي ، فابتدأ باسم الإشارة ، وقد ذكرنا آنفا أن الإشارة إلى المذكور بصفات تكون الإشارة إلى الصفات ، وفيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم التالي الذي هو خبر اسم الإشارة ، والحكم أنهم أصحاب النار ، أي أنهم الملازمون للنار لا يفارقونها ، ولا تتخلى عنهم
[ ص: 205 ] كما لا يتخلى الصاحب عن صاحبه ، وذكر سبحانه وتعالى أنهم خالدون فيها ، فقال تعالى :
هم فيها خالدون ، وقد أكد خلودهم في النار بالجملة الاسمية ، وتقديم الجار والمجرور ، أي هم خالدون ، وخلودهم مقصور عليها ، فلا حول لهم ولا قوة .
* * *