[ ص: 1822 ] ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
* * *
في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال. وفي هذه الآيات يرغب سبحانه في
الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى:
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة يقال: أرغمه، إذا أوقعه في الرغام، وهو تراب الأرض، ورغم أنفه إذا نزل إلى التراب، وذلك كناية عن الذل بعد الكبرياء. وأرغم أنفه، إذا أنزل به. وراغمه، إذا حاول كل واحد منهما أن يرغم الآخر. والمراغم مكان المراغمة، وقد أطلق على مواضع طلب المعيشة، والطريق في الأرض، وذلك إذا كان يصل إليه بعد مشقة، أو جهد غير معتاد، وهذا هو الذي يقال في معنى النص الكريم. فالمعنى على هذا: ومن يهاجر ويترك دار إقامته في سبيل الله تعالى طالبا ما عنده يجد طرائق كثيرة في الحياة، وإن كان لا ينالها إلا ببعض المشقة، فإنها قنطرة للراحة، وكذلك ينال سعة في رزقه وحياته ودينه، فلا يضيق في دينه عليه، ولا يعيش في ذلة وهوان، أو مقترا عليه في الرزق.
والآية تحث على الهجرة إذا توافرت أسبابها، وتشير إلى أن
المهاجر إن ترك محل العيش الرتيب، فإنه سيجد في النهاية مذاهب مختلفة للرزق، وسعة في الحياة، وعدم ضيق، فهو معوض بلا ريب.
[ ص: 1823 ] وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى: إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل وطلب العزة، أو للخروج من أرض ليست تحت ولاية الإسلام إلى أرض فيها ولاية الإسلام، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قل فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مظنة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين. ففي كل هذه الأحوال تكون الهجرة في سبيل الله تعالى:
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حمى الناس إلى حمى الله تعالى، فهو مهاجر منتقل إلى جانب الله تعالى ورسوله، فإذا كان يترك بيته وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما. وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه التي نوهنا عنها سابقا ينال إحدى الحسنيين: إما الظفر بالسعة والعزة والمال، وإما الظفر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق إلى الله.
وهذا قد قال فيه سبحانه:
فقد وقع أجره على الله أي فقد حق له الأجر العظيم عند الله تعالى. وقد تفضل سبحانه، فاعتبر ذلك الأجر حقا عليه سبحانه، ولذا عبر بـ"على" في قوله:
على الله ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنه صار وثيقة على الله تعالى وذلك كله تأكيد لتحقق الأجر بهذه الهجرة. وإن ذلك الأجر غفران لما مضى من ذنبه، ورحمة به بالنعيم المقيم في الآخرة، ولذلك قال تعالى:
وكان الله غفورا رحيما أي أن الوصف الدائم الثابت لله تعالى في الأزل أنه كثير المغفرة، ومن شأنه الرحمة بعباده، فبمقتضى
[ ص: 1824 ] رحمته فتح باب الهجرة وحث عليه، وبمقتضى رحمته مكن للمهاجر من السعة والعمل في الأرض، وبمقتضى رحمته اعتبر نية الهجرة إذا صاحبها العمل كافية للثواب والأجر العظيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، ومن بعد ضعفهم قوة، واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك، إنك سميع الدعاء.
وبعد أن ذكر أن الهجرة فيها عزة، وأن المهاجر يجد سعة من الرزق، يذكر سبحانه ما سهله تعالى للمهاجر أو المسافر من عبادة تيسيرا له، وتشجيعا على السفر، فقال سبحانه:
* * *