يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله
* * *
إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى، ولا رحمته ولا مغفرته، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون، ولأنهم في جفوة مستمرة، ولا يحبون الناس ولا يألفونهم، ولا يحبون لقاءهم، وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون، وأبدوا غير ما يخفون!. فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة: هذه السمة هي الاستخفاء، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر، وكتمانه أمره حتى لا يكشف، وتدبيره السوء في استخفائه! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة، والأثرة القاطعة!.
[ ص: 1844 ] وإنهم إذ يستخفون من الناس لا يشعرون برقابة الله على أعمالهم، لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوي موجه للنفس، والوجدان الديني القوي لا يكون في قلب جاف قاس، قد ترك الناس ولم يألفهم، وهذا معنى قوله تعالى:
ولا يستخفون من الله فهو مطلع عليهم، وإن كانوا لا يشعرون، وعليم بأمرهم، وإن كانوا يستخفون من الناس، ويبتعدون عنهم.
والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء، والابتعاد، وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون، والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجلت قدرته:
وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم، ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضى الله عنها. فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في معنى النص الكريم: "يدبرون ويزورون -وأصله أن يكون بالليل- ما لا يرضى من القول ... فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس; قلت: لما حدث بذلك نفسه سمي قولا على المجاز".
فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبر بليل، وتنفذ بليل، حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال:
ما لا يرضى من القول فلماذا ذكر القول وحده; لقد وجه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه، ونحن نقول: إنه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى، لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك
بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عليم اللسان منافق القلب هو [ ص: 1845 ] أخوف من يخافه على أمته، فعناية المنافق بالقول الذي يستر به عمله هي الجزء الأكبر من تدبيره، وإن عمل الليل سهل، ولكن إخفاءه بزخرف القول صعب عند ظهور آثاره. وفوق ذلك فإن القول إذا كان لا رضى، فالعمل أبعد عن الرضا.
وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لا يرضاه، للإشارة إلى مقته لهم، وحسابهم عليه. وإذا كان الله تعالى عليما بما لا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت، فهو بعملهم عليم أيضا، وهو أيضا لا يرضى عنه، ولذا قال سبحانه:
وكان الله بما يعملون محيطا فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذي لا يرضيه، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه. والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها: أن علمه كامل لا ينقصه شيء، فهو علم إحاطة واستغراق. وثانيها: أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا. وثالثها: أن الله واضع أعمالهم في دائرة، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم; لأن الله محيط بهم وبما يعملون:
* * *