1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا
صفحة جزء
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون

* * *

كان بنو إسرائيل يعيشون في صحراء سيناء مع موسى عليه السلام ، وقد أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى ، فأكلوا منها رزقا طيبا ، وما كان يمكن أن يبقى ذلك رزقا دائما ، وإن كان ذلك ممكنا سائغا في ذاته ، ولكن لأنهم برمون متململون مما يرزقهم الله تعالى رتيبا مستمرا ، بل إنهم يطلبون التغيير .

[ ص: 241 ] والقرية هي المدينة العظيمة الجامعة لعدد كبير من السكان ، من قرى بمعنى جمع ، ولذلك أطلق على مكة أنها قرية وأم القرى ، ولم يبين القرآن الكريم ما هي هذه القرية ، لم يرد في القرآن ما يبين عين هذه القرية أهي الأرض المقدسة أم هي قرية قريبة أمرهم موسى بالدخول فيها ، وإن الذي نفهمه من النص والسياق أنها قرية ليست بعيدة عن صحراء سيناء ، وأن ذلك في عهد موسى عليه السلام .

أما أنها قريبة ليست بعيدة فقد أخذناه من الإشارة ، فقد أشير إليها بالإشارة الدالة على القرب ، وهي " هذه " ، فهي لا بد أن تكون قريبة ، والنص يدل على أنهم دخلوها ، وقد عصوا أمر ربهم الذي أمر به عند دخولهم .

وأما أنها كانت في عهد موسى عليه السلام ، ولم يكن قد فارقهم بالموت ، فإن ذلك يثبت من سياق القول ، لأن موسى عليه السلام من قبل الأمر بالدخول كان هو الذي يخاطبهم بأمر الله تعالى ، ومن بعد الأمر بالدخول هو الذي كان يخاطبهم ويخاطبونه ، فلم يكن من مقتضى ذلك أن يكون الدخول ، وقد انقضى عهد موسى عليه السلام ، وجاء غيره .

وعلى ذلك نقول إن الله سبحانه وتعالى أبهم ذكر هذه القرية ، ولا نتعرض لبيان ما أبهمه الله تعالى ، ولم يذكره نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يثبت قول عن أصحابه الذين تلقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم النبوة ليبلغوه للناس ، وإن القول في هذه القرية ما هي ؟ داخل في النهي في قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم

ولكن قال بعض العلماء إنها أريحا ، أو بعض بلاد في الأردن ، ورجح الأكثرون وقالوا إنه القول الصحيح ، أنها بيت المقدس التي كتب الله تعالى لهم أن يدخلوا ، وقالوا إن ذلك ذكر في القرآن في سورة المائدة ، إذ قال تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن [ ص: 242 ] ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

* * *

وإني وإن كنت لا يمكنني أن أعين قرية بعينها ، فإني لا أختار أنها الأرض المقدسة ، وذلك لأن الإشارة إلى القرية كانت إلى قرية قريبة ، ولأن الأرض المقدسة لا تذكر بهذا الإبهام المستغرق ، ولأن ما حدث منهم من تبديل القول يدل على قرب عهدهم بالكفر ، وأنه لم يكن التيه الذي يقوي شكيمتهم ، ولأنه إذا كانت بيت المقدس ، فإن دخولهم فيها بعد التيه كان على يد سيدنا يوشع عليه السلام .

وإننا ننتهي إلى هذه القرية ، وليست في هذه القرية عبرة خاصة توجب معرفتها إذا كانت القرية ، إنما يكفي في التعريف بها أنها كانت ذات رزق راغد ، وعيش واسع ; ولذلك قال تعالى : فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي فكلوا أي أكل تشاءونه رغدا في هذه القرية ، فلا تقتصروا على المن والسلوى ، كما أنزل الله تعالى رحمة بكم ، وهما أطيب الطعام وأشهاه وأمرؤه ، وأهنؤه ، كلوا أي أكل شئتم من الحلال رغدا واسعا كثيرا .

ثم أمرهم سبحانه أن يدخلوا الباب لهذه القرية خاشعين خاضعين شاكرين لنعمة الله تعالى التي أنعم بها عليهم طالبين غفران خطاياهم ، فقال تعالى : وادخلوا الباب سجدا أي ساجدين شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليكم وأن أخرجكم من الظلمات إلى النور ، ومن الذل إلى العزة ، ومن الظلم المرهق إلى العدل المنصف ، وأن أعطاكم ما تحبون من طيب العيش ، وما تشتهون من حلال .

وقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا ، وتغمدنا برحمتك والتوبة إليك ، وإن الله رتب على خضوعهم ، وشكرهم لنعمة الله تعالى ، وطلبهم من الله تعالى أن يحط [ ص: 243 ] عنهم ذنوبهم ، ويخلعوها متبرئين ، ويتطهروا ، رتب على ذلك غفران خطاياهم فقال تعالى : نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين .

ومعنى نغفر لكم أي نستر ذنوبكم ثم نرفعها عنكم ، ووعد الله تعالى بأنه سيزيد المحسنين خيرا وبركة ، والمحسن هو من أتقن وأجاد فعل الخير ، والمعنى أن الله تعالى يغفر لهم ما ارتكبوا من آثام كبيرة كانوا قد تعودوها حتى صارت خطايا ، يغفرها ، سبحانه وتعالى ، ثم وعد سبحانه ووعده الحق أنه سيزيد المحسنين ، وينعم عليهم بالتوفيق إذا تابوا وآمنوا ، ويجزيهم أحسن الجزاء .

والخطايا جمع خطيئة ، وهي الذنوب التي تتكاثر ، حتى يفعل الذنب ، وكأنه يقع منه من غير قصد إليه لتمرسه به ، وقساوة نفسه وقلبه ، كما قال تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . ويقول الخليل بن أحمد في تصريف خطايا إنها جمع خطيئة ، أصلها خطائي ، ثم قلبت الياء ألفا ، كما قلبت في قوله تعالى : يا أسفى على يوسف فصارت خطاءا ، ثم قلبت الهمزة ياء لأنها صارت بين ألفين ، وذلك تسهيل في النطق .

هذا ما أمرهم ربهم ، أمرهم بالدخول خاشعين ساجدين ، وأن يقولوا حطة أي حط عنا ذنوبنا ، ولكنهم وقد تعودوا المعصية وألفوها : غيروا الألفاظ ، وبدلوها إلى ألفاظ تدل على نقيض معناها ، وكذلك دائما شأن العصاة المذنبين وخصوصا بني إسرائيل ; ولذلك قال الله تعالى : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم لقد قيل لهم قولوا حطة أي حط عنا يا ربنا ذنوبنا ، ولا تعذبنا بما فعلنا واعف عنا ، بدلوا هذه الكلمة الضارعة الخاشعة إلى كلمة أخرى قريبة اللفظ ولكن فيها معنى مغاير ، فقالوا : (حنطة ) أي أنهم بدل أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالضراعة توجهوا إليه بطلب المادة ، والحنطة هي القمح ، يتركون الضراعة التي هي نعمة التقوى إلى طلب القوت ، وفي ذلك عدول عن إرضاء الله تعالى إلى طلب ما يرضي أهواءهم ، [ ص: 244 ] ويشبع شهوات بطونهم ، وفوق ذلك فيه تلاعب بأمر الله تعالى ونهيه ، واستهزاء بأوامر ربهم ، وتحريف للقول عن مواضعه ، كما فعلوا من بعد موسى عليه السلام ، إذ حرفوا القول عن مواضعه ، وضلوا ضلالا بعيدا . وذكر الله تعالى الموصول ، فقال : الذين ظلموا ، فأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن الدافع لهم على التغيير والتبديل في أمر الله تعالى أو نهيه هو ظلمهم وإلحادهم في دين الله تعالى .

وقد عاقبهم الله تعالى فأنزل العذاب بهم فقال تعالى : فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون الرجز هو العذاب ، أو هو الرجس ، والرجز قاذورات النفوس وفسادها ، وقد أصابهم الله تعالى بالأمرين ففسدت نفوسهم إلا أن يتوبوا ، وأنزل الله تعالى عذابه بهم إذ جعلهم أذلاء مستضعفين في الأرض إلا أن يتسربلوا سربال التقوى ، ويسيروا في طريق العزة ، ويهجروا أسباب الذل .

والرجز قسمه الأصفهاني في مفرداته إلى قسمين : رجز ينزل بسبب أعمال الإنسان من عصيان للرب ، ومخالفة لأمره ، وسوء تدبيره ، وهذا عذاب الله تعالى ، ورجز ينزل بلاء من الله ، واختبارا يصهر نفوسهم . كطاعون ينزل بهم ، أو إهلاك للحرث والنسل ، أو ضرب الذلة عليهم .

وقد أصاب الله تعالى بني إسرائيل بالنوعين من الرجز فعذبوا في الحياة الدنيا رجاء أن يتوبوا ويهتدوا ، وأصيبت نفوسهم بالذلة ، التي ضربت عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، ونزلت بهم الآفات البشرية .

وذكر سبحانه وتعالى أن السبب في ذلك ظلمهم وفسقهم ، فأما الظلم فبينه سبحانه بالإظهار في موضع الإضمار إذ قال : فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء والتعبير بالموصول يفيد أن الصلة سبب لما أنزل الله تعالى من رجز ، وهذا بيان للسبب بالإشارة ، أما فسقهم فقد بين سبحانه سببيته بصريح اللفظ الكريم ، فقال : بما كانوا يفسقون أي بسبب أنهم يفسقون ، و (كانوا ) دالة على [ ص: 245 ] الاستمرار ، والتعبير بالمضارع يفيد أن فسقهم على دوامه يتجدد وقتا بعد آخر فكلما تاب عليهم فسقوا مرة أخرى .

والفسق هو الخروج ، يقال فسقت الفأرة خرجت من جحرها ، وفسق الثمر خرج ، فهؤلاء يخرجون عن الحق ، ويسيرون وراء الباطل سيرا متجددا مستمرا آنا بعد آن .

وذكر الله تعالى أن الرجز من السماء إشارة إلى أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يظنون ، وأنه من الله العزيز الحكيم ، فإن ما يكون من السماء مغيب لا يعلم متى يجيء ولا من أي جهة يجيء .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية