وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
* * *
[ ص: 246 ] كان بنو إسرائيل يعيشون مع
موسى عليه السلام في معجزات حسية مستمرة ، ولو كانت قوة الدليل وحسيته سببا للإيمان لكان بنو إسرائيل أشد الناس إيمانا وأقواهم يقينا ، ولكن الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلوب الأتقياء فيدركون الحق ، ويذعنون له ، ويطمئنون إليه . وقد أرانا الله تعالى آياته في بني إسرائيل ، فكلما أتاهم بدليل وكلما أتتهم آية كفروا بها ، فلو كانوا يذعنون للحق لأذعنوا لبعض هذه الآيات ، ولكنهم قوم معاندون ، مناقضون الحس .
شكوا إلى
موسى أنهم لا يجدون الماء الذي يشربونه فاتجه
موسى إلى ربه ضارعا يطلب الماء ، ولذا قال تعالى :
وإذ استسقى موسى لقومه .
وإذ - كما ذكرنا - دالة على الوقت الماضي ، والمعنى اذكروا ذلك الوقت الذي استسقى فيه
موسى لكم ، تذكروا عطشكم في ذلك الوقت ، وكيف استسقى
موسى ربه لأجلكم ، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يضرب بعصاه الحجر ، فضرب ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، هي بقدر عدد الأسباط أولاد
يعقوب عليه السلام ، وذريتهم من بعدهم ، اذكروا ذلك وتذكروه ، فإنه معجزة من الله تعالى . فكان لكل سبط عينه ، يشرب منها هو ومن معه من سبطه لكيلا يتزاحم على الماء ، فينال الماء القوي ، ويضيع الضعيف ، واستسقى ، السين والتاء للطلب ، أو السؤال ، والاستسقاء الضراعة إلى الله تعالى أن ينزل الماء ، فهذا الاستسقاء عبادة لأنه دعاء الله تعالى ضارعا إليه أن ينزل عليه الماء ، والدعاء المتضرع عبادة في ذاته ، ولقد
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جف المطر ، وأجدبت الأرض استسقى . . فقد خرج إلى المصلى متواضعا ، متذللا متوسلا متضرعا ودعا ربه أن يسقى المطر ، فنزل مدرارا ، حتى خشي الناس أن يضر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم حوالينا ، ولا علينا " .
[ ص: 247 ] ولما استسقى
موسى عليه السلام لم ينزل عليه مطر ، ولكن قال له ربه :
اضرب بعصاك الحجر والعصا هي آية الله تعالى ، ومعجزة
موسى التي انقلبت حية تسعى ، والتي بها ضرب البحر بها فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، ضرب بها الحجر ، ولم يكن حجرا معينا له صفات ذاتية ، بل إنه للعهد الذهني الذي ينطبق عليه اسم الحجر ، كما تقول ادخل السوق ، فالمراد أي شيء ينطبق عليه اسم السوق ، ضرب
موسى عليه السلام الحجر
فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا انفجرت : انشقت ، وخرجت من الحجر اثنتا عشرة عينا ، والعين هي الموضع الذي يخرج منه كعين
زمزم ، فماء العيون لا يكون من السماء كالمطر ، ولكن يكون من الأرض ، أو الحجر ، كما رأينا ما فعلته عصا
موسى عليه السلام ; وهنا ثلاث معجزات خارقة للعادة :
الأولى : ضرب الحجر بالعصا ، فينبثق منه الماء ، وهذه
معجزة العصا .
والثانية : أن الضرب في الحجر الذي لا يخرج منه الماء عادة ، ولا يعلم أن الماء ينبع من الأحجار ، ولكن من الأرض اللينة التي لا تكون حجرا متماسكا ، وقد يخرج ماء العيون من الجبال ولكن يكون من شقوق يخرج منها لا من ذات الحجر ، أما الذي يخرج من ذات الحجر فإنه خاص بمعجزة
موسى عليه السلام .
الثالثة : كون الماء يخرج اثنتي عشرة عينا على قدر عدد الأسباط ، و
قد علم كل أناس مشربهم أي مكان شربهم ، أي العين التي خصصت لهم ، وقد كان الحجر الذي ضربه
موسى عليه السلام بعصاه مكعبا له أربعة جوانب ظاهرة على الأرض ، فكان في كل جانب قد انبثق فيه ثلاث عيون ، فيكون عددها في كل اثنتي عشرة عينا ، وعلم كل أناس العين التي يشربون منها ، فكان لكل سبط منهم ثلاث عيون .
وإن هذا التوزيع بينهم لا يفرق ، ولكنه يجمعهم ، فالعدل يجمع ولا يفرق ، وفوق ذلك فيه تسهيل للتناول فلا يتزاحمون ولا يتنازعون ولا يضيع الضعيف بينهم .
وقد بين الله تعالى أن الماء مباح لهم ، كما أبيح لهم الطعام ; ولذا قال تعالى :
كلوا واشربوا أي أنه أبيح لهم الأكل من المن والسلوى ، كما ذكرنا آنفا ، أو أبيح
[ ص: 248 ] لهم أن يأكلوا من ثمرات هذا الماء الذي يجيء إليهم من هذه العيون التي تفيض في الأرض غير مقطوعة ، ولا ممنوعة .
وإن النعمة إذا كثرت على أمثال بني إسرائيل كانت مظنة الفساد ، ولذا قال تعالى :
ولا تعثوا في الأرض مفسدين العثو ، من عثى يعثى بمعنى أفسد ، أو بمعنى أضاع كل ما فيه من خير ، فاعتدى على حق غيره ، فيعثون يشمل كل فعل يؤدي إلى الاضطراب والإفزاع ومنع الخير ، ويتقارب من معنى العبث ، ويكون قوله تعالى :
مفسدين ليس تكرارا للفظ لا تعثوا أو تأكيدا ، إنما هو لبيان العثو ، وهو القصد إلى الإفساد ، فمفسدين معناها قاصدين إلى الإفساد .
وإن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا ، بل هم في تململ مستمر ، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب ، ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلي بهم :
يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
كان اليهود (لعنهم الله ) لا يهمهم إلا ما يطعمون ، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا ، ثم سألوا تلون الأطعمة ، ولم يفكروا في أمر معنوي ، لم يفكروا في العزة بعد الذلة ، ولا في النجاة بعد القتل ، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها
موسى عليه السلام ، ولا في الإيمان بعد الكفر ، ولا في الرفعة بعد الحطة .
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه ، لم يطلبوا الهداية ، ولكن طلبوا ألوان الطعام ، وقال تعالى عنهم :
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد والمعنى : اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم ، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه ، ولكن في طعام تأكلونه ، نادوا
موسى وهو لهم كالأم الرءوم :
يا موسى لن نصبر على طعام واحد وهو المن والسلوى ، وقالوا : على طعام واحد ، لأنه لون واحد متكرر مستمر ، لا يتغير ، فهو يعرض بطريقة واحدة ، والشيء المتكرر
[ ص: 249 ] يكون شيئا واحدا ، ولو تجدد وتكرر ، ولو كان أكثر من واحد ، ولو كان طيبا ، وإن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم ، ولو كان أشهى ، وقالوا يائسين من أن يرضوا : لن نصبر على طعام ، فأكدوا النفي بـ " لن " ، ودلوا على تململهم بقولهم : " لن نصبر " ، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد .
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم :
فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها ، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره ; فإذا كنا لا نصبر ،
فادع لنا ربك ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض ، وقوله " يخرج " في معنى جواب الأمر ، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا ، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع ، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت ، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة .
والبقل معروف ، وهو كل نبات لا ساق له غالبا كاللوبيا والفاصوليا ونحوهما كالفول ، وفومها وهو الثوم وقيل القمح واللغة لا تساعد ذلك ، وعدسها وبصلها وهما معروفان ، ولكن
موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها ، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم ، بل ذاكرهم فيما يطلبون ، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن ، فقال لهم :
أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أي أتتركون الخير ، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه وإن كان من نعمة الله تعالى .
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك ، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه ، وعبر بقوله تعالى :
الذي هو أدنى أي أنه في ذاته دان في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته ، وثابت على الخيرية ; لا يزيل صفة الخيرية ما تطلبون .
والأدنى معناه القريب ، ولما كان القريب سهل التناول ، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لا يكون ذا منزلة .
[ ص: 250 ] والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع ، أي فيه معنى التوبيخ ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب ، وهو المن والسلوى ، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما ، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما .
ولقد قال
موسى كما أخبر ربه :
اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ويفيد ذلك ضمنا بأن
موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك ، وعبر بقوله :
اهبطوا مصرا ، لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك ; لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض ، وهم ينزلون من العزة ، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم ، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب .
وقوله :
اهبطوا مصرا بالتنكير يجعلنا نفكر أهي
مصر التي اضطهدوا فيها ، وذبحت أبناءهم ، واستحيت نساءهم ، أم
مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل .
إن التنكير يفيد أي
مصر فيها زرع وثمار ، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها
مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها ، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض
مصر ،
وموسى بينهم ; ولذا نرجح أن
موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي
مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء .
بعد هذا يئس
موسى من إصلاحهم . . أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا : يا
موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . . وأراد
موسى عليه السلام ، أن يبعدهم عن
فرعون وقومه ، وأن يخلصهم من أوهامهم ، فانتهزوا غيبته ، واتخذوا العجل ، وعبدوه . . وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم . . ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين ، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم ، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة ) .
[ ص: 251 ] طلب الله تعالى إليهم كل ذلك ، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه ، وهو الذلة ، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء ، وإذا هانت النفوس ذلت ، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت ، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع .
ولذا قال تعالى :
وضربت عليهم الذلة والمسكنة أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها ، بل يتنقلون في دائرتها ; ينتقلون فيها من جانب إلى جانب ، ولا يخرجون منها ، فصارت حالهم في ذلتهم ، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها ، ولذلك عبر بـ ضربت عليهم ، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف ، وهي لازمة للذلة ، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة ، والخضوع للظالم ، ولا يرضون إلا بالذل ، ولا يقبلون غيره ، فإن النفس إذا ألفت الذل ، واستمرأته ، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له .
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مفعلة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم ، أو الظهور بمظهر قبوله ، وهو السكون ممن لا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا .
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات ، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش ، ويفكهون في ملاذ الدنيا ، ويستمرئون البقاء فيها .
ولقد قرر الله تعالى عقوبة قاسية لذوي الضمائر الفاسدة ، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى ، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى ، فمعنى
وباءوا بغضب من الله أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لا ينفكون عن الغضب ، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته ، وأنهم لا يستحقونها ، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته :
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق .
[ ص: 252 ] الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهم أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى ، ومعه الخزي والعار .
قال سبحانه في سبب ذلك :
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة
موسى ، وهي في ذاتها نفع لهم ، أنجاهم من
فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى
فرعون ، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة
موسى عليه السلام ، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله :
بأنهم كانوا يكفرون بيان لاستمرار كفرهم ، وتكرره بتكرر آياته ، فإن " كانوا دالة على الاستمرار ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر بتكرار الآيات ، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها ، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى عليهم ، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله ، وكفر النعمة بعدم شكرها ، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع ، وما جرى عليه الناس ، ويجرون عليه إلى يوم القيامة .
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية ، الكفر سلب ، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا ، أما الجريمة الإيجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق ، فهم لا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته ، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا
يحيى بن زكريا عليهما السلام .
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا ، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى ، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار ، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم ، واستمرائهم الباطل والعصيان ، ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات ، وقتلهم للأنبياء بقوله :
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
[ ص: 253 ] وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق ، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق ، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر ، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم ، وقبح تصرفاتهم ، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم .
ذلك بما عصوا أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان ، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها ، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا ؟ ! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور ، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء .
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك كان لمجرد الاعتداء ، فهم في طبيعتهم العدوان ، لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان ، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لا محالة الاعتداء ، الاعتداء في طلب الأشياء ، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات ، والاعتداء بقتل الأنبياء ، فالاعتداء والعصيان من شئونهم ، وهكذا هم بلاء هذا الوجود .
* * *