وبعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذي أنشأ الناس، وطالبهم بالعبادة، وأن من أنشأ يستطيع الإفناء، ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه، فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما، ولذلك قال سبحانه:
* * *
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا
* * *
والمعنى الجملي للنص السامي: إن يشأ الله تعالى أيها الناس إفناءكم ويأت بآخرين، فإنه سبحانه وتعالى يفعل؛ لأنه على ذلك قادر قدرة مطلقة لا يحدها حد. وهي العامة الشاملة لكل شيء، وهنا نجد جواب الشرط قد حذف ودل عليه قوله تعالى:
وكان الله على ذلك قديرا وحذفه مع ما يدل عليه يجعل الذهن يتجه إلى تعرف مدى عظمته وقدرته، وحذف مفعول المشيئة في قوله:
إن يشأ قد دل عليه جواب الشرط في قوله:
يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين
ومن هم الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب; يحتمل هذا وجهين: أحدهما، أن يكون الخطاب للناس في أمة محمد، ومن كانوا قبلهم، ويكون الكلام تابعا لقول القول المقدر عند من قدره في قوله تعالى:
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات ويكون أيضا قوله تعالى:
ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا له هذه التبعية. ويكون الكلام كله في خطاب السابقين واللاحقين. وقد قلنا إن ذلك غير الظاهر.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب في أمة
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو بهذا يشمل المؤمنين والمشركين. ويكون للمشركين بشكل خاص. وإن اختلاف التوجيه على هذا النحو يترتب عليه الاختلاف في جواب الشرط، وهو من الذين يذهبهم الله تعالى، ويأتي بآخرين، وله القدرة التامة على تنفيذ ما يقول تعالى؟ فعلى الوجه الأول يكون المعنى: إن يشأ سبحانه أن يذهب بهذا العالم الإنساني، ويأتي بعالم
[ ص: 1892 ] آخر يعبده ويؤمن به، فإنه الفاعل المختار المريد، ويكون القصد
بيان قدرة الله تعالى الشاملة، وإثبات أن كفر الكافر ليس بعيدا عن تقديره، وإيمان المؤمن كذلك، فهو الذي خلق الإنسان صالحا لأن يسلك طريق الشر وطريق الخير، وأن ذلك بإرادته، ولو أراد غيره لكان ما أراد لأنه هو الذي يقول للشيءكن فيكون، وهو الذي خلق الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويكون ذلك كقوله تعالى:
إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد [فاطر].
وعلى التوجيه الثاني -وهو أن يكون الخطاب للمشركين الكافرين بالرسالة المحمدية والمسلمين الذين يكونون على طرف الإسلام- يكون المعنى إن استمررتم على الشرك أو كان منكم الكفر بعد الإيمان، فإن
الله تعالى بمقتضى سننه في الفطرة الإنسانية يفنيكم بإذهاب قوتكم وسيطرة الفساد عليكم، ويجيء من بعدكم من ينصر الحق، ويكون النص كقوله تعالى:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد]، وكقوله:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [المائدة]، وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم ببيان قدرته الكاملة على ذلك التغيير، فقال تعالى:
وكان الله على ذلك قديرا أي أن الله سبحانه وتعالى قدير على ذلك التغيير والتبديل الذي تستغربونه وتستبعدونه، وقد قدم الجار والمجرور وهو قوله (على ذلك) لموضع الاهتمام وهو التغيير والتبديل، الذي يستبعدونه لفرط إحساس المشركين بقوتهم، وغرورهم بدولتهم، واستضعافهم لشأن المؤمنين الصادقين.
* * *