الناس جميعا سواء أمام الله يجزيهم إن آمنوا
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
* * *
اختص الله سبحانه وتعالى الآيات السابقة ببني إسرائيل وكفرهم بالآيات المتتالية آية بعد آية ، وبتكرار وتوالي ذلك الكفر ليبين سبحانه وتعالى انصرافهم عن الحق مع كثرة الآيات ، وكفرهم بالنعم مع تواليها . وكأن القارئ للقرآن الكريم يحسب أن العبر تنزل لمن يكفر بها ، والآيات المعجزة تتوالى على من ينكرها . .
[ ص: 254 ] فيبين الله تعالى أن الغاية من هذه النعم هي الإيمان ، وأنهم إن كفروا بها فباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم ، وأن
الله تعالى خلق الخلق ليتفكر الناس فيؤمنوا وليجدوا فيها البرهان فيؤمنوا
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وقد قضى الله تعالى أن الإيمان مقبول من كل الطوائف والملل ، وقد جعل سبحانه وتعالى ذلك الحكم الخالد الأبدي معترضا في أخبار بني إسرائيل ليفتح باب الإيمان لهم ، ولغيرهم ، فقال تعالى :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا .
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق ، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود ، وإنما ذلك قيوميته وإرادته ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه جلت صفاته ، فليس كمثله أحد ، وهو السميع البصير ، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب ، وثواب وعقاب ، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله .
هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع
محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإيمان ، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس ،
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم
محمد بن عبد الله رسوله الأمين ، علم أن
الله منزه عن مشابهة المخلوقين ، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالحا
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان .
وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب ، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله
محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
[ ص: 255 ] هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان ، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقووا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسله والاستجابة لكل ما أمر به - من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم ، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر ، لأن الإيمان يجب ما قبله كما قال تعالى :
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم .
ونقبس قبسة من صورة الإيمان كما علم
جبريل أمة
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم :
روى
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=676575كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد شعر الرأس ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبته إلى ركبته ، ووضع يديه على فخذيه ، ثم قال : " يا محمد ، ما الإسلام ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت . قال : صدقت ، فعجبنا منه يسأله ويصدقه ، ثم قال : يا محمد ، ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، قال : صدقت ، فعجبنا منه يسأله ويصدقه ، ثم قال : يا محمد ، ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك ، قال : فمتى الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، قال : فما أمارتها ; قال ; أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " . هذا هو الإيمان الذي يزيل الفوارق التي تكون بين الأمم والجماعات والأديان ، وقبل أن نتم الكلام حول الآية الكريمة نذكر أمورا ثلاثة فيها بيان للناس في ظل بيان القرآن الكريم .
[ ص: 256 ] أولها الفاء في قوله تعالى
فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون هي في جواب الشرط أي أن الإيمان الذي شرحناه والعمل الصالح الذي ذكرناه هو الشرط لأن ينالوا الجزاء من أمن الخوف ، وألا ينالهم حزن على الماضي .
الأمر الثاني : قد عرفنا اليهود ، وهم منحرفون دائما ، ولكن فتح لهم باب الرجاء ، والنصارى كذلك ، فمن هم الصابئون ؟
الصابئون الذين ظهروا في الإسلام وقبله هم أكتم الناس لعبادة الأوثان ، ويعلمون صبيانهم كتمانها ، وقد قال عنهم
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن : وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة أو عبادتها واتخاذها آلهة ، وهم عبدة أوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر
الفرس على إقليم
العراق ، وأزالوا مملكة الصابئين لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا ، لأنهم منعوهم من ذلك ، وكذلك
الروم وأهل
الشام والجزيرة كانوا صابئين ، فلما تنصر
قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية ، فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ، ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر ، وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان ، فلما ظهر الإسلام دخلوا في غمار النصارى ، ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى ، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان ، كاتمين لأصل اعتقادهم ، وهم أكتم الناس لاعتقادهم ، فالصابئة يعبدون الكواكب والأوثان ، ويظهرون بالنصرانية ، هذا ما يجب بيانه هنا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا تاريخ الجدل .
الأمر الثالث : إن بعض النصارى - ومال ميلهم من في دينه لين - قال : إن القرآن الكريم يعترف بأن النصارى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ونقول إنه اشترط للاعتراف للنصارى بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - الإيمان بالله تعالى ، وأنه الواحد الأحد ، وأنه ليس بوالد ولا ولد ، وليس له كفوا أحد ، فهل يؤمن النصارى في عصرنا ذلك الإيمان وهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة ، والله تعالى يقول :
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ويقولون بألوهية
المسيح كما قرروا ذلك في مجمع نيقية بإجماع القساوسة وإجماعهم إلى اليوم ،
[ ص: 257 ] والله تعالى يقول :
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
* * *