اعتداؤهم في السبت
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
* * *
لقد كان بنو إسرائيل قوما غلبت عليهم شقوتهم ، فكان رب العالمين يشرع لهم من الشرائع ما يربون به نفوسهم ، ويعودهم ضبط النفس ، وفطمها ، ليتربوا على البعد عن الشهوات ، ويقتصروا على ما فيه مصلحتهم ، ويقيم حياتهم مستقيمة ; ولذلك حرم عليهم بعض المباحات قرعا لنفوسهم وفطما لها ، وقد قال
[ ص: 261 ] تعالى :
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون .
من ذلك كان تحريم الصيد عليهم يوم السبت قمعا للشهوات ، وقد يكون فيه تنظيم اقتصادي ، وراحة لهم ، وأن يعكفوا على العبادة ، ويروضوا أنفسهم على حياة روحية تتطهر فيها نفوسهم وتتجرد من سطوة المادة وشهواتها .
حرم الله تعالى عليهم الصيد في يوم السبت ، ولكنهم مرقوا عن أمر الله تعالى ، واستباحوا السبت ، أو بعبارة أدق استباحه بعضهم ، وسكت عن نهيهم سائرهم ، وإن كان الذين امتنعوا خيرهم ، وقالوا في إخوانهم :
لم تعظون قوما الله مهلكهم ولأن أصواتهم لم تصل إلى درجة المنع - نسب الاعتداء إليهم جميعا .
يقول الله تعالى :
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت أكد سبحانه وتعالى علمهم بهذا الاعتداء باللام التي تكون للتأكيد ، وبـ قد التي تكون للتحقيق دائما سواء دخلت على المضارع أم دخلت على الماضي ، كما هو في القرآن الكريم .
وقالوا : إنه سبحانه وتعالى قال : علمتم ، ولم يقل عرفتم ; لأن المعرفة تمييز للشخص في ظاهر أمره ، فتقول : عرفت فلانا إذا لقيته ولم تخبر أحواله ، وإذا قلت : علمته ; فمعنى ذلك أنك علمت أحوال ظاهره وباطنه ، فتقول : علمت زيدا إذا علمت أحواله ظهورها ، وخفاياها .
أي أنكم علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ، في شره نفوسهم ، وقرمهم إلى الصيد ، واندفاعهم نحو المخالفة لأمر ربهم مدفوعين بشهوات جامحة يتحايلون فيها تحايل الولهى لتحقيقها ، حاسبين أن ذلك يخفى على الله تعالى ، ولكن سبحانه وتعالى يزيد في اختبار نفوسهم ، فيرسل حيتان السمك إليهم شارعة يوم السبت ، ثم لا تأتيهم بعد ذلك ، ولذلك قال تعالى مبينا الاختبار في آية أخرى ، فقال تعالى :
[ ص: 262 ] واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون .
وهذه
القرية يروي
ابن كثير في تفسيره أنها كانت بين
الأيلة والطور ، ولعلها المصر الذي هبطوا إليه في قول
موسى :
اهبطوا مصرا . ويروي
ابن كثير أنه اشتهى بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر . فإذا كان يوم السبت فتح السد فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت أن يخرج ، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيها فإذا كان يوم الأحد جاءه ، فأخذه ، فشواه ، وقد قلده جاره ، وشاع هذا وفشا فيهم . . فقال لهم علماؤهم : إنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل ، فأنتم اصطدتموه يوم السبت .
وما أشبه هؤلاء بإخوانهم ينتسبون إلى دين
محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى إنهم يستبيحون الربا بحيل محرمة ، والله عليم بهم وبأحوالهم ، ولهم ما أعده الله لبني إسرائيل ، وهم أصل الداء في هذا وفي غيره .
وقد قال تعالى ما يفيد أنهم إذا لم تتهذب نفوسهم ، ولم تترب بالضبط قلوبهم فإنهم كالقردة والخنازير ، فقال تعالى :
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين الفاء كأخواتها تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كانوا قد اعتدوا ذلك الاعتداء وشرهوا ذلك الشره ، قلنا لهم بلسان التكوين :
كونوا قردة خاسئين وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه قال أنه مسخت قلوبهم فصارت كقلوب القردة تنزوا لشهواتها ولا تتعقل ولا تتدبر في عاقبة أمرها فهبطوا إلى هذه المنزلة الدون وقال : إنه مثل ضربه الله تعالى مبينا حالهم ، كالمثل في قوله تعالى :
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فصارت قلوبهم قلوب قردة .
[ ص: 263 ] وإنه يزكي ذلك المعنى أنه شبه حالهم في آية أخرى بالقردة والخنازير لا بالقردة وحدهم ، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة :
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل .
ومعنى خاسئين . . أي مبعدين يقال خسئ أي بعد ، وخسأته أبعدته ، والمعنى بعيدون عن مواطن العزة ورضا الله تعالى ، لأن الشهوة والعزة نقيضان لا يجتمعان فالشهوات مطية المذلة والهوان ، ولا يهون إنسان إلا إذا هانت نفسه ، وصارت أمة للشهوات . إن الله تعالى جعل تلك القرية التي كانت مكان الفسق عن أمر الله تعالى نكالا وموعظة فقال تعالى :
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها .
النكال المنع والزجر ، والنكل القيد ، والأنكال القيود ، لأنها تمنع .
والفاء للإفصاح ، كما ذكرنا في غير ذلك الموضع ، والضمير في قوله تعالى :
فجعلناها نكالا يعود إلى العقوبة أي جعلنا هذه العقوبة التي كان من مقتضاها أن يفقدوا معاني السمو الإنساني ، والارتفاع عن حضيض الحيوانية الأوهد ، وقيل : إنها تعود على القرية التي كان فيها ذلك الاعتداء ; لأنها حاضرة في الذهن ومشار إليها بذكر الذين اعتدوا منكم في السبت ، أي والقرية التي كان فيها الاعتداء ، فهي إن طويت في البيان ملاحظة في المعنى ، وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضا ، وما يطوى في مكان يصرح به في مكان آخر ، تعالت كلمات الله تعالى .
وقد أنزل سبحانه وتعالى بسبب هذه الشهوات الجامحة الخارجة عن مقتضى الطبع الإنساني عذابا شديدا من الذل بعد العزة ، ومن الضيق بعد السعة ، ومن الشدة بعد الرخاء ما جعلها عبرة لمن بين يدي الحاضرين ، ومن يجيء بعدها من الناس ، وعبر سبحانه وتعالى عن الحاضرين بقوله تعالى :
لما بين يديها كناية عن وجودها معهم ، وأنها على مقربة منهم ، قرب ما بين اليدين من الصدر ، والذين تحوطهم ويحوطونها .
[ ص: 264 ] وإن ذلك العقاب يكون له صدى يتردد في الأجيال بعدهم جيلا بعد جيل ، ومثل هذه القرية كمثل قرية عصت أمر الله تعالى ، وكفرت بأنعمه سبحانه ، وقال فيها تعالت كلماته :
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون .
فما أشبه حال بني إسرائيل في أنعم الله تعالى عليهم بحال تلك القرية ، وكأنها مثل بين لهم ، والموعظة وزنها تفعلة بمعنى المصدر الميمي من الوعظ ، وهو التخويف والزجر بما وقع لغيره ، ويكون للتذكير بالخير مما يرق له القلب ، كما يكون للتذكير والإنذار بما وقع للعصاة .
وخص سبحانه وتعالى تأثير الموعظة بالمتقين ، وإن كانت هي للعالمين لتفردهم بالتأثر بها ، والاهتداء بهديها وهم الذين تنفعل نفوسهم للخير لأنهم ليسوا مغرورين بعزة الشيطان ، ولكن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى ، بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب الله تعالى وقاية ، فمن دأبهم الحذر من الشر ، وإذا ذكروا ذكروا ، والله هو الهادي إلى الرشاد .
* * *