[ ص: 1962 ] إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
* * *
الآيات السابقات بينت أحوال القلوب إذا أظلمت، والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون
محمدا -صلى الله عليه وسلم- بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره، ولكن الله تعالى منعه منهم، ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو كمال السلسلة من النبوة التي
[ ص: 1963 ] اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة: فقال عز من قائل:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى:
يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك [النساء].
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد
موسى، وقالوا:
ما أنـزل الله على بشر من شيء [الأنعام]، مبالغة في إنكار رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي هذه الآيات وما إليها
بيان بوحي الله تعالى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل، بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل. ولذا قال تعالى:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والوحي في الأصل الإعلام الخفي، والإشارة والإيماء، والإلهام، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا [الشورى]، فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب.
والوحي هنا يعم الأنواع الثلاثة من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.
والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية، وبين الوحي للرسل السابقين، وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وبـ"إن" المؤكدة، فقال:
إنا أوحينا إليك
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر
نوح -عليه السلام-، لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر، ولأن في ذكره معنى
[ ص: 1964 ] التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية:
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [نوح].
فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه. وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد:
وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة "وأوحينا" لتأكيد الإيحاء، وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين
نوح عليه السلام
وإبراهيم، فإن التكرار في الذكر إيحاء إلى التباعد في الزمن; ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد
نوح، والمذكورين، لأن أولئك جميعا من ذرية
إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم، واختلفت أماكنهم.
وإن القارئ يلاحظ أمرين:
أولهما: أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة!
فإبراهيم أبو الأنبياء،
وإسماعيل أبو العرب،
وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله
يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه، والأسباط، وهم أولاد
يعقوب -عليه السلام- جمع سبط، وهو ولد الولد - مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه، وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام، لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة،
وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة، فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين،
وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم، وقد قال تعالى فيه:
[ ص: 1965 ] وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [الأنبياء].
ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه:
وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم [الصافات].
وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر
داود فقال تعالى:
وآتينا داود زبورا أي كما أعطينا
داود كتابا خاصا هو الزبور، والقراءة المشهورة بفتح الزاي، وقراءة
nindex.php?page=showalam&ids=15760حمزة بضمها أي "زبورا"، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب، وعلى الضم يكون جمعا لزبر بكسر الزاي، والزبر هو الشيء المكتوب، وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل.
ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام، لأن التوراة كانت شرائعها هي النظام المتبع، بل هو حكم ومواعظ، وقد قال فيه
القرطبي :
"الزبور كتاب داود، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ".
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى
داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين، إحداهما: أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس. والثانية: أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لا يأكل إلا من عمل يده، ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش، وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان حاله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651930 "إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" فهو
[ ص: 1966 ] النبي الملك القائد الذي أدخل نفسه في زمرة العمال; إذ كان لا يأكل إلا من عمل يده.
* * *