بقرة بني إسرائيل
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه [ ص: 265 ] يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون
* * *
كان بنو إسرائيل في
مصر ، وكانوا أذلوهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، ولكنهم عاشروهم حقبة طويلة من الزمن تأثروا بعاداتهم ، وألفوا ما كانوا يألفون ، لقد كان المصريون يعبدون العجل ، ويقدسونه وقد أراد الله تعالى أن يقتلع من بني إسرائيل ما تأثروا به ، وقد رأينا
السامري أضلهم فعبده بعضهم ، ولم ينههم سائرهم عن عبادته ، فاشتركوا جميعا في هذا المنكر .
وإن الله تعالى قد اختبرهم ليزيل ما في نفوسهم من نزعة إلى تقديسه أو بقية من هذا التقديس فقال رسولهم الأمين القوي :
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ولو أتوا إلى أية بقرة فذبحوها لكان في ذلك استجابة لأمر الله تعالى ; لأن الأمر المطلق تتحقق الإجابة فيه بالتنفيذ في أية جزئية من جزئياته ، والمطلق يتحقق وجوده في أي فرد من أفراده .
ولكن الطلب لم يصادف أهواءهم ، وحالهم في ذات أنفسهم فأخذوا يراوغون بكثرة الاستفهام ، وإن أول التمرد هو كثرة الأسئلة ، فالطاعة ألا تتمرد ، ولا تثير الجدل ، وكان أول قولهم في مجاوبة نبي الله وكليمه
موسى عليه السلام أن قالوا ، وكأنهم يتهكمون :
أتتخذنا هزوا والهزو اللعب والسخرية ، أي أنهم يستغربون ذلك الطلب ، ولا ندري لماذا يكون الأمر بالذبح سخرية بهم ، وعبثا بعقولهم العابثة إلا أن يكون ذلك مخالفا لمألوفهم ، وبالغوا في الهزء فقالوا :
أتتخذنا هزوا أي
[ ص: 266 ] أتجعلنا بأمرك في موضع الهزء والسخرية ، وذلك لما ألفوه من أن البقرة مقدسة لا تذبح بل تعبد ، وإذا لم تكن عندهم هذه الحال فإنه لا موضع لأن يستهزأ بهم ، ولا أن يسخر منهم بذكر أمر الله تعالى .
فقال
موسى كليم الله :
أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين كانت إجابتهم لأمر الله تعالى خروجا عن طاعته بأغلظ القول وأفظه ، فأجابهم الرسول الرفيق ، فقال : أعوذ بالله تعالى أن أكون من الجاهلين ; أي ألجأ إليه عائذا به ، متجها إليه أن أكون من الجاهلين ، لأن الجاهل هو الذي يجعل الهزء والسخرية في موضع الجد وبيان أمر الله تعالى ، ونفى سيدنا
موسى عليه الصلاة والسلام وصف الجهل ، ولم يكتف بنفي الفعل ; لأنه أبلغ وبيان أنه لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى : أولي العزم من الرسل ، وبالغ عليه السلام في نفي الجهل بنفي أن يكون من زمرة الجاهلين لما يجب على الرسول من بيان أمر الله تعالى .
وإن ذلك الجواب القاطع كان جديرا بأن يمنعهم من اللجاجة والمراوغة في الاستجابة لأمر الله تعالى ، ولكن لأن نفوسهم متأثرة بأوهام المصريين ، استمروا في لجاجتهم ومراوغتهم عساهم يجدون مناصا للخروج من هذا الأمر الجازم قالوا :
ادع لنا ربك يبين لنا ما هي يقولون لنبي الله
موسى : ادع ربك واضرع إليه - الذي رباك وكونك أن يبين لنا ما هي ؟ وصيغة السؤال هكذا استفهام عن ماهية البقرة وحقيقتها وكأنهم لم يروها ولم يعرفوها ، ولم يكونوا مع الذين كانوا يعبدونها ، ولكن نبي الله الحكيم ، أجابهم بالأسلوب الحكيم ، وهو ما ينبغي أن يكون السؤال عنه فقال عليه السلام بهداية من الله تعالى :
إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر والفارض هي التي فرضت سنها أي أنها حطت سنها ، وبلغت نهايته ، أي كانت طاعنة في السن ، ولا بكر : ليست صغيرة ، أي أنها بقرة وسط ليست صغيرة ولا كبيرة ; ولذا فالعوان بين ذلك أي وسط بين الصغر والكبر المفرط ، ويظهر أن تلك كانت أوصاف عجل أهل
مصر ، وقد قال
موسى بأمر ربه
فافعلوا ما تؤمرون بلا لجاجة ولا مراوغة ، ولا محاولة الإفلات من أمر الله تعالى .
[ ص: 267 ] وكان حقا عليهم أن يطيعوا بعد ذلك فقد بين لهم كل شيء ، والفاء للإفصاح ولكن لجاجتهم لم تنته عند ذلك ، وهم يريدون أن يراوغوا وأن يثيروا الجدل عساهم يفلتون من إجابة الأمر .
قالوا مجادلين مراوغين :
ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها أي يبين اللون الذي يريدها أهي الصفراء أم السوداء ، أم الخليط من ذلك ، ولقد بين سيدنا
موسى اللون ، فقال :
إنه يقول مسندا القول لرب العالمين :
إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين الصفراء هي ما فيها لون الصفرة ، ومعنى
فاقع لونها أي خالص صاف له بريق ولمعان ، ولذلك يسر الناظرين ، أي تتلقاه الأنظر بالسرور ، وكأن هذه كانت أوصاف العجل الذي كان المصريون يعبدونه ، وكان يجب عليهم بعد ذلك أن يفعلوا ما أمروا غير متلومين ، ولا متحيرين ولكنهم أثاروا بعد ذلك ما يفيد حيرتهم ، ولا حيرة في ذات الموضوع إنما الحيرة في نفوسهم الملتوية التي سرى إليها تقديس البقرة . قالوا كأنهم متحيرون :
إن البقر تشابه علينا وإن التشابه من عقولهم ، لا من الجهل في ذلك قالوا :
ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون كان هذا التساؤل المستمر كاشفا لسوء نيتهم وعدم رغبتهم في الطاعة ، وقد تكشف أمرهم فستروه مظهرين رجاءهم في الهداية وكان ذلك بقولهم :
وإنا إن شاء الله لمهتدون أكدوا رغبتهم في الهداية بالجملة الاسمية ، وبـ " أن " وبـ " لام " التوكيد ، والمشيئة الربانية ، ومع ذلك كان سؤالهم عن الماهية ، ولكن عدل في الإجابة إلى الأسلوب الحكيم ، وهو بيان أنها ليست ذلولا معدة لحراثة ولا لسقاية الزرع ، بل هي فارغة عن عمل ، ولذا قال
موسى في الرد :
إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها أوصاف يشترط وجودها ليكون ذبحها سائغا جائزا :
أولها : أنها ليست ذلولا أي ليست مذللة لعمل معين بل هي مطلقة ترعى في الكلأ ، لا رقابة عليها ، ولا سلطان لأحد .
[ ص: 268 ] وثانيها : أنها لم تعد لحرث الأرض وإثارتها ليرمى فيها الزرع .
وثالثها : أنها لا تسقي الزرع فلا تدير ساقية تسقي الزرع .
والوصف الرابع : أنها مسلمة ، أي سليمة من العرج ، ومن كل ما يشوب جسمها من شوائب المرض ، فمسلمة اسم مفعول من سلم ، أي أن الله تعالى سلمها من كل العيوب الجسمية ، فلا بها عرج ، ولا عور ، ولا أي عيب جسمي .
والوصف الخامس : أنه لا شية فيها ، أي ليس فيها لون يخالف لونها الذي يعم كل أجزائها ، والشية أصلها وشية حذفت فاؤها ، لأنها وصلة ، والشية مأخوذة من وشى الثوب إذا نسج على لونين مختلفين .
ونرى أن هذه الأوصاف في البقرة تشبه الأوصاف التي كان يذكرها قدماء المصريين في العجل الذي يعبدونه ، فأتى الله سبحانه وتعالى بأوصافه ، لتبين أنهم خلصوا من نفوسهم كل أوهام المصريين في البقر .
وقد يقال : إنه كان عجلا ، ولم يكن بقرة ، فنقول : إن بقرة مفرد لاسم جنس جمعي هو البقر ، ويراد به الذكور والإناث ، وإن طلب ذبح بقرة تتشابه في أوصافها مع أوصاف العجل الذي توهموا أنه يستحق أن يعبد ، فيه اختبار شديد لهم ، وحمل لهم على أن يخلعوا كل أوهام المصريين التي سرت إلى نفوسهم .
ولقد قال تعالى من بعد ذلك :
فذبحوها أي قاموا بذبحها
وما كادوا يفعلون لكثرة لجاجتهم ، ومراوغاتهم وجدلهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى راضهم على ذلك حتى فعلوا كارهين غير راضين .
* * *