يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
* * *
بينت الآيات السابقات حال أهل الديانتين السابقتين على الإسلام، والذين يذكرون أنهم يتبعون رسولين من أولي العزم من الرسل، وهما
عيسى وموسى عليهما السلام، وكيف نسوا حظا مما ذكروا به، وكيف أخفوا كثيرا مما ذكروا به، وكيف انحرفوا عن أصل التوحيد الذي هو لب الدين ودعوة كل النبيين الذين بعثوا من رب العالمين، ثم ادعوا مع ذلك التغيير والتبديل والانحراف أنهم الأقربون إلى الله تعالى، وقد رد الله تعالى عليهم قولهم، فبين سبحانه أنهم بشر ممن خلق، وأنه لا فضل لهم على أحد إلا بالاستجابة لأمر الله تعالى، وفي هذه الآية التالية يبين سبحانه مقام الرسالة المحمدية وأنها جاءت في إبانها، وفي وقت الحاجة إليها، فقال عز من قائل:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل الفترة هي الزمن بين زمنين متغايرين في الحوادث، ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين، وقد قال
الراغب الأصفهاني في معنى الفترة: "الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أي سكون خال عن مجيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله تعالى
لا يفترون [الأنبياء]،
[ ص: 2102 ] أي لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=687318 "لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك" فقوله عليه الصلاة والسلام:
nindex.php?page=hadith&LINKID=887106 "ولكل شرة فترة" إشارة إلى ما قيل: للباطل جولة ثم يضمحل، وللحق دولة لا تذل ولا تقل، وقوله: من فتر إلى سنتي أي سكن إليها، والطرف الفاتر فيه ضعف مستحسن".
ويستفاد من ذلك الكلام القيم أن الفترة سكون بين عملين بارزين، فهي سكون بين زمني عمل، ولا شك أن عدم وجود رسالة في زمن بين رسالة مضت، ورسالة آتية، وهو سكون نسبي في الزمن بينهما، وإن كان العمل واجبا بالشريعة السابقة، حتى تنسخها الشريعة اللاحقة، ويكون التكليف منها.
وهنا مباحث لفظية تشير إلى نواحي البيان العالي في النص الكريم: المبحث الأول: في التعبير بقوله تعالى:
قد جاءكم بدل أن يقال "جاء إليكم" لأن التعدية بغير "إلى" فيها معنى الملاحقة والملازمة، وأنه لا مناص من اتباعه، ففرق بين أن يقال جاء إليه، وأن يقال جاءه، لأن الثانية تضمن الملازمة، وأنهم لا يستطيعون الخروج عما جاء به إلا إذا أذنبوا.
الثاني: وإضافة كلمة الرسول إلى الذات العلية في قوله تعالت كلماته:
رسولنا إشارة إلى معنى قدسية هذه الرسالة ومكانتها، وأنها ممن لا تسوغ مخالفته، ولا الخروج عن طاعته.
الثالث: ابتداء الخطاب بقوله:
يا أهل الكتاب تنبيه لهم بأن مصاحبتهم للكتاب، وكونهم أهل معرفة يوجبان عليهم الطاعة، والاستجابة، لأنهم عرفوا رسالة الله تعالى إلى خلقه، وأنه ما خلقهم عبثا، ولا يتركهم هملا، وأنهم إن
[ ص: 2103 ] خالفوا ما جاءهم به الرسول يكون اللوم لهم أشد، إذ يكون عصيانهم عن بينة ومعرفة.
الرابع: في قوله:
يبين لكم على فترة من الرسل فالفعل "يبين" قدر له بعض العلماء مفعولا وتقديره: يبين لكم الأحكام، والتكليفات، والأوامر الخالدة، وبعض العلماء لا يقدر له مفعولا، على أساس أنه منزل منزلة اللازم، وعلى هذا يكون المعنى: جاء رسولنا بالبيان الكافي المشرق الكاشف للظلمة التي وقعتم فيها، وبذلك يشمل كل التكليفات، وكل ما تشتمل عليه رسالة
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك البيان كان بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة أنه قال في هذا المعنى: "
قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل وهو
محمد -صلى الله عليه وسلم-، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله تعالى، ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به".
الخامس: في قوله تعالى:
على فترة من الرسل يقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إن الجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: (جاءكم) أي جاءكم على فترة من الرسل، وعندي أن المتعلق يكون بأقرب فعل، وهو "يبين"، والمعنى يبين لكم على فترة من الرسل، أي بعد فترة لم يكن فيها بيان، وقد جاء الرسول الكريم بهذا البيان، ويزكي هذا قوله تعالى:
أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير
ويفسر كثيرون من المفسرين أن قوله تعالى:
على فترة معناه حين فترة، وعندي أن تفسيرها بظرف آخر، وهو "عند"، يكون أدق، لأن الرسالة كانت نهاية الفترة، فهي كانت عندهم في نهايتها، ولم تكن في حينها ووقتها، والتعبير بقوله تعالى:
على فترة فيه معنى فوقية الرسالة على الفترة، وعلوها عليها كعلو البيان على الجهل، والنور على الظلمة، وفيه لوم، لأنه يشير إلى أنه لا يسوغ لهم أن يجحدوا رسالة
محمد -صلى الله عليه وسلم-، لأنهم ينزلون من الأعلى إلى الأدنى.
أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير المقصود الواضح من هذا النص هو بيان أن
حكمة مجيء الرسول هو قطع العذر على من يحتج بالجهل، وعدم معرفة
[ ص: 2104 ] أوامر الله تعالى ونواهيه، فالمعنى على هذا هو أن رسولنا قد جاءكم يبين لكم الطريق المستقيم وطريق الحق القويم لكيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير يبشر بالخير عند الطاعة، وينذرنا بالعذاب عند المعصية، بل إن الله تعالى قطع العذر عليهم وأبلغ الحجة، فلا عذر لجاهل، ولا اعتذار لمتجاهل.
وهذا التعبير:
أن تقولوا ما جاءنا من بشير مثله قوله تعالى:
يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم [النساء]، كثير في القرآن الكريم، وفيه يكون التعليل مقتضيا تقدير محذوف، فإن قولهم بنفي البشير لا يمكن أن يكون علة لإرسال الرسول إلا بتقدير محذوف ويقدره الكوفيون بتقدير لا النافية محذوفة، فيكون المعنى جاءكم رسولنا يبين لكم لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، أو كيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، وقد اختار
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ذلك التقدير، ويقدره البصريون بمصدر محذوف مناسب، ككراهة أن تقولوا أو اتقاء أن تقولوا، والمعنى على ذلك، جاءكم رسولنا يبين لكم كراهة أن تقولوا، أو اتقاء أن تقولوا، وقد اختار هذا التقدير
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري .
والحق عندي: أن الآية الكريمة واضحة، ومدلولها بين، لا إبهام فيه، والمراد منها جلي، وهو قطع العذر عليهم وإنما هذه التقديرات تخريجات نحوية لتستقيم قواعد النحو، لا ليستبين معنى الآية، فهي بينة واضحة.
والبشير: المبشر الذي يدعو إلى الحق، ويبين الثمرات الحسنة لمن تبعه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يبين أن المصالح تتحقق فيما يدعو إليه، وأن العزة الحقيقية تكون لمن اتبعه، والحياة الكريمة الفاضلة تكون لمن أخذ به، وفي الآخرة يبين جزاء الإحسان من جنات تجري من تحتها الأنهار، ونعيم مقيم لا يبلى، والنذير هو الذي يبين العواقب السيئة لمن يخالف الحق، إذ يكون في اضطراب لا اطمئنان معه، وانزعاج لا أمن معه، ويعيش في آثام مبطئة، وأوزار مثقلة، وفي الآخرة يكون العذاب الأليم، والمقت والسخط من الله تعالى.
[ ص: 2105 ] و"من" في قوله تعالى:
من بشير لتأكيد النفي، والتنكير في "بشير ونذير" للتصغير لا للتكبير، وإنما كان للتصغير لأن النفي بعمومه شامل، والمعنى: ما جاءنا أي بشير ولو صغيرا، ولا نذير ولو كان ضئيلا، فقد حرمنا من الهداية وما حرموا منها.
فقد جاءكم بشير ونذير الفاء هنا تفصح عن كلام مقدر قبلها، قد يكون شرطا، وقد يكون غير شرط، والمعنى لا عذر لكم، وقد قطع السبيل عليكم، فقد جاءكم الرسول الذي أرسلناه مبشرا بالحق وغايته وثمرته في الدنيا والآخرة، ومنذرا من يرتكبون المعاصي بالهوان وسوء العقبى، والاضطراب في الدنيا، والعذاب الأليم، فعليكم أن تطيعوا، ولا تحسبوا أن الخير أماني تتمنى، من غير عمل يعمل.
لقد روي في السنة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال:
"دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهود، فرغبهم وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، nindex.php?page=showalam&ids=228وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : "يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله لتعلمن أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقد كنتم تذكرونه قبل بعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال وهب بن يهوذا: إنا ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية قد سيقت لقيام الحجة عليهم فيما ينكرون، وأنهم مأخوذون بما يدعون إليه، فإن قاموا بحق الإسلام، واستجابوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد نجوا، وإلا فقد هلكوا، والتنكير هنا للتعظيم في شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولتعظيم بشارته وإنذاره، والمعنى قد جاءكم بشير ونذير هو أعلى المبشرين المنذرين، لأنه خاتم النبيين; ولأنه آخر لبنة في صرح النبوة، ولأن تبشيره وإنذاره قائمان إلى يوم القيامة، فلا نبوة بعده، ولا وحي ينزل على أحد من بعده فرسالته خالدة باقية، وبشير ونذير وصفان، وقد عطف ثانيهما على الآخر لتغايرهما في المعنى والمؤدى وإن كانا وصفين لشخص واحد، كما قال تعالى:
[ ص: 2106 ] إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وكان التعدد لمعنى آخر; لأن التبشير عمل غير الإنذار، وكلاهما وظيفة النبوة، فكان العطف بالواو لهذا المعنى، فليسا وصفين ذاتيين ولكنهما وظيفتان متغايرتان للرسالة.
وإن هذا الخطاب لأهل الكتاب وبخاصة اليهود مع ما فيه من بيان الحقائق، وضع الاعتذار فيه تهديد، وفيه إشارة لسلطان الله تعالى، ولهذا ختم الآية الكريمة بهذا النص الكريم:
والله على كل شيء قدير
كان هذا ختام الآية الكريمة، وفيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها:
أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسل، ويختار معجزاتهم، وعلى ذلك لا يصح لأحد أن يدعي أنه رسول، ولا يأتي أحد من بعده إلا إذا أخبر هو عن إرادته العالية، كما هو الشأن بالنسبة
لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أما
موسى عليه السلام، فلم تكن رسالته خاتمة الرسائل، ولو كان حيا ما وسعه إلا اتباع محمد.
ثانيها: أن
تغير المعجزات في دائرة قدرة الله تعالى، فهو خالقها، وهو الذي يختارها بحكمته بما يناسب كل رسول، وليس لمن كانت الرسالة موجهة إليهم أن يختاروا على الله تعالى، فهو المريد المختار، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ثالثها:
أن الله تعالى هو وحده القادر على تنفيذ ما أمر به رسوله من تبشير وإنذار، فهو المعطي، وهو المعاقب، وهو المانح وهو المانع، وسيكون العقاب الشديد نازلا بهم إن عصوا، وليس بأمانيهم ولا أماني أهل الكتاب.
اللهم اغفر لنا ونجنا من عقابك، ولا تحرمنا من رحمتك وعفوك إنك أنت العفو الغفور.
* * *