صفحة جزء
وإن الأكثرين منهم فاسقون، بل إنه يكون منهم ما هو شر من الفسق في ذاته، فيقعون مع الفسق في أشد مظاهر الخسة، ولذا قال سبحانه فيهم:

قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله

أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى عظيم شرهم، والاستفهام هنا للتنبيه، الخطير في ذاته، والتنبيء به ذكره مؤكدا.

والإشارة عند الأكثرين إلى ما نقمه اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه من أنهم يؤمنون بالرسالات الإلهية كلها لا فرق بين رسول ورسول، ولو كانوا هم قد قتلوه أو حاولوا قتله، والمثوبة في أصل معناها الجزاء الثابت على العمل، سواء أكان شرا أم كان خيرا، ولكن شاع استعمالها في الخير، وهي في لغة القرآن لا تكون إلا في الخير كالثواب فإنه مقابل العقاب.

وهنا يرد سؤالان: أولهما - كيف يكون الإيمان شرا، ويوجد ما هو أعظم شرا منه؟ وكيف يعبر عن جزاء الشر بالمثوبة؟ والجواب عن السؤالين: إن في التعبير عن ثمرات شرهم بالمثوبة من التهكم بهم، والازدراء بتفكيرهم، وإن التعبير [ ص: 2265 ] عن الإيمان، وهو خير، بالشر من قبيل المشاكلة لتفكيرهم، كأنه قيل: إذا كنتم تنقمون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيمانه وتحسبونه شرا لا خير فيه فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، ومن وقوع في غضبه ومن مسخكم قردة وخنازير.

وقيل: إن الإشارة إلى فسقهم، ومؤدى الكلام على هذا أن هناك ما هو شر من فسقهم وجحودهم، وهو ثمرة فعلهم، وتلك الثمرة هي اللعن والطرد من رحمته، ومسخهم قردة وخنازير، وكأن قوله: أكثركم فاسقون فيها حكم بالفسق الدائم المستمر في اليهود الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى صار ذلك كالجبلة فيهم والغرائز الموروثة، وقوله تعالى:

أولئك شر مكانا بيان لثمرة فسقهم. ولكن الظاهر هو الأول; لأن المقابلة واضحة في هذا النص الأخير، إذ فيه مقابلة ما عليه أهل الإيمان بما آل إليه أمرهم.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالت كلماته:

من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت المقابلة هنا بين من آمنوا بالله ورسله، وبين من أنزل بهم سبحانه ما أنزل، وقد ذكرهم مقرونين بما أنزله سبحانه، ومعنى من لعنه الله، أنه طردهم من رحمته، رحمة الإيمان وإدراك الحق والقرار والاطمئنان في الدنيا، وضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الناس، وإن استقروا زمانا فإلى طرد مستمر، هكذا كان ماضيهم، وهكذا يكون حاضرهم إن شاء الله تعالى، وإنهم في الآخرة في السعير يدوم عليهم عذابها.

والأمر الثاني: الذي ينزله تعالى بهم هو غضبه عليهم، وسيعاملون في الدنيا والآخرة على مقتضى حكمته في غضبه وعدم رضاه.

والأمر الثالث: أن الله سبحانه وتعالى جعل منهم القردة والخنازير، وقد سار المفسرون على الأخذ بظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله تعالى مسخهم قردة [ ص: 2266 ] وخنازير حقيقة، بل أفرط بعضهم فزعم أن القردة والخنازير خلفوا نسلا لهم، ولكن الحقيقة أن القردة والخنازير كانت قبلهم، وقوله تعالى: وجعل منهم القردة والخنازير مبالغة في المشابهة بينهم، حتى كأنهم الأصل في هذين النوعين من الأحياء.

ومع أن المفسرين قد أخذوا بظاهر الألفاظ من غير تأويل، قد روي عن مجاهد الذي تلقى التفسير عن ترجمان القرآن ابن عباس أن المراد بمسخهم قردة وخنازير مسخ قلوبهم، فصاروا في نزواتهم، واستيلاء الشهوات على نفوسهم وعبثهم بكل مقدرات القيم الخلقية كالقردة، كما صاروا في قذارات نفوسهم، وتطلبهم للقذر من المكاسب كالخنازير إذا يطلبون القذارات يأكلونها، وتنمو أجسامهم عليها.

وقد قال ابن كثير في تفسيره ما نصه عن مجاهد: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فقال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هم مثل ضربه الله تعالى: كمثل الحمار يحمل أسفارا وهذا سند جيد عن مجاهد وهو قول غريب (الجزء الأول من تفسير ابن كثير ص 105 طبع التجارية).

وعندي أنه لا غرابة، وإن كان الأكثرون يستغربونه، وإنه قد وردت أحاديث قد تفيد هذا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: "سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود; فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لم يلعن قوما قط فمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان فلما غضب الله تعالى على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم". [ ص: 2267 ] وإنه قد يستفاد من الحديث أن المثلية في النفوس لا في الأجساد، وهذا هو الذي نميل إليه، واللفظ يحتمله ولذا نختاره.

والأمر الثالث الذي منى الله تعالى به اليهود أنهم عبدوا الطاغوت، والطاغوت فعلوت من الطغيان وهم يعبدون الطغيان دائما، فهم يعبدون الحاكم الطاغي، ويكونون أدواته، وهم يعبدون المال الطاغي المأخوذ من غير حله، وهم يعبدون الهوى ويتخذون هواهم إلها يعبدونه.

وقد سجل الله سبحانه وتعالى الحكم مؤكدا فقال سبحانه:

أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل أي: أولئك المتصفون بالفسق الذي أنزل الله تعالى عليهم سخطه، وقرر طردهم من رحمته، ومسخ قلوبهم حتى صارت قلوبهم كقلوب القردة والخنازير، وعبدوا الطغيان، ولم يؤمنوا بالحق، هؤلاء شر مكانا، أي: مكانهم في الدنيا شر مكان إذ يأكلون من المحرمات، كما تأكل الخنازير من القاذورات، وهم في ذلة، ولو أوتوا قوة وسلطانا بسبب اتصالهم بأشرار الأرض، فهم في ذلك بالتبعية، وهم أبعد عن الطريق السوي المستقيم، فهم في ضلال مستمر، وإن سكنوا واطمأنوا أياما فسيذيقهم الله تعالى وبال أمرهم، ويحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.

التالي السابق


الخدمات العلمية