[ ص: 350 ] النسخ
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
* * *
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى بعض أفعال اليهود من إنكار وجحود وكفر بالنعمة وكفر بما يعرفون صدقه واتخاذ السحر وأوهامه واتباع ما يضر . . بين سبحانه النسخ لأنه يتضمن نسخ بعض ما جاء في التوراة وإن صدق أصلها ، ونسخ المعجزات التي كان يأتي بها
موسى عليه الصلاة والسلام ، ليؤمن بنو إسرائيل وآل
فرعون ، ذكر الله تعالى نسخ الشرائع القديمة ونسخ المعجزات الحسية السابقة وأنه أتى بمعجزة هي القرآن ، وإنها أمر أوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان آخر صرح للنبوة ، إذ كان
محمد - صلى الله عليه وسلم - آخر لبنة في صرح النبوة ، وكان خاتم النبيين .
بعد ذلك تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للنسخ في الشرائع والآيات .
النسخ معناه الإزالة كما تقول نسخت الشمس الظل ، أي أزالته وحلت محله ، ويطلق أيضا النسخ بمعنى نقل المكتوب كما قال :
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
والآيات تطلق على طائفة من القرآن مفصولة عما بعدها كآية الكرسي ، وآيات المنافقين وآية الربا ، وآية حد السرقة وغير ذلك من آيات الله تعالى البينات .
[ ص: 351 ] وتطلق على الآيات الكونية التي تدل على قدرة الله تعالى وعلى حكمته ، وبديع خلقه ومنها معجزات النبيين الحسية كالعصا ، وفلق البحر وإبراء الأكمه وإحياء الموتى بإذن الله ، والإخبار عما في بيوتهم ، ومن ذلك قوله تعالى :
وجعلنا ابن مريم وأمه آية ومن ذلك قوله تعالى :
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ومن الآيات الحسية قوله تعالى :
أتبنون بكل ريع آية تعبثون لأن البناء العالي فيه دلالة على براعتهم في البناء .
والنسخ في اصطلاح الفقهاء على أساس أن الآية هي الآية القرآنية هو إزالة حكم الآية ، ويقسمون النسخ إلى ثلاث :
القسم الأول -
نسخ الحكم وبقاء التلاوة ، كما ادعوا لآيات نسخ حكمها وبقيت تلاوتها ، كآية تقديم الصدقة بين يدي الرسول إذا ناجوا الرسول في قوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة
والقسم الثاني -
آية نسخت تلاوتها ولم ينسخ حكمها ، كما قيل إنه كان في القرآن آية " إذا زنى الشيخ والشيخة ، فارجموهما ألبتة " فنسخت تلاوتها وبقي حكمها ،
[ ص: 352 ] والقسم الثالث - وهو الأصل
آيات محكمة لم يعرها نسخ ولا تأويل ، وهذا القسم يقولون إنه أكثر القرآن .
وفي هذا الكلام نظر يستبين مما نقول إن شاء الله تعالى .
ويقولون : إن هذه أقسام بالنسبة لذات النسخ ، أما بالنسبة للناسخ فيقولون
القرآن ينسخ السنة ، ولكن يشترط
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لنسخ القرآن للسنة - أن يكون من السنة ما يدل على النسخ ، كالسنة التي دلت على نسخ القبلة من
بيت المقدس إلى
الكعبة المشرفة .
وادعوا
نسخ القرآن بالسنة بل ادعوا نسخ عموم القرآن بأحاديث الآحاد .
وكل على تفسير الآية في قوله تعالى :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فإنها الآية القرآنية المشتملة على أحكام تكليفية بإلغاء تكليف ووضع تكليف آخر في موضعه كنسخ تحريم بإباحة ، أو إباحة بتحريم ، ولكن يلاحظ أن نسخ القرآن بالسنة لا يستقيم مع النص الكريم ; لأن النسخ يوجب أن يأتي بخير من المنسوخة أو مثلها ، ولا يمكن أن تكون السنة خيرا من القرآن أو مثله .
ولكن هل الآية تدل على وقوع النسخ ، أو تدل فقط على جوازه على فرض تفسير الآية بالآية القرآنية ( ولنا في ذلك نظر ) نقول إن الآية تدل على الإمكان لا على الوقوع ; لأن النص السامي بشرط وجواب هذا الشرط - إذ إن " ما " من أسماء الشرط جزم به ننسخ وجوابه :
نأت بخير منها أو مثلها فهي دالة على الإمكان لا على الوقوع بالفعل ، والوقوع بالفعل يجيء من تتبع الأحكام الشرعية الناسخ منها والمنسوخة كما ادعي في الآيات التي ذكرنا ، والأحكام التي تكلم فيها الفقهاء مدعين فيها نسخ آيات بآيات .
فالآية لا تدل على وقوع النسخ ، ولا على لزومه .
وقبل أن ننتقل بتفسير الآية إلى معنى آخر نتكلم في معنى
ننسها وعلى هذه القراءة يكون ننسها من قلوب الناس لأنها من أنساها - من قلوب الناس ، أي
[ ص: 353 ] أنه أنساها للناس ، وربما يتفق هذا على قول الذين يقولون إن ثمة آيات نسخت تلاوتها ، وبقيت أحكامها ، كما ادعي في الرجم .
وهناك قراءة ( ننسأها ) بفتحتين وهمزة ، وبمعنى نؤجلها من النساء بمعنى التأجيل ، وخرج بعض اللغويين القراءة الأولى
أو ننسها على هذا المعنى ، فقال إن الهمزة قلبت ياء إذ أصلها ننسئها فسهلت الهمزة فعوملت الياء معاملة حرف العلة فحذف في حال الجزم ، وعلى هذا المعنى تتلاقى القراءتان على معنى التأجيل ، ويكون المعنى لا نزيل حكم آية أو نؤجل حكمها ، إلا أتينا بخير منها أو مثلها . ثم قال تعالى مؤكدا جواب الشرط بقوله تعالت كلماته :
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير والمعنى تعلم علما يقينيا مؤكدا أن الله تعالى على كل شيء قدير . وقدم قوله على كل شيء لاختصاصه تعالى بكمال القدرة وعمومها ، ( ألم ) استفهام للنفي مع التنبيه ونفي النفي إثبات مع التنبيه وتأكيد العلم .
وهذا القول كله على تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية .
وأولئك كما ذكرنا يقررون
النسخ في القرآن ، وقرره
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وغيره من الفقهاء الكبار ، وعلى رأسهم شيخهم
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وإمام دار الهجرة
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وإمام السنة
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل .
وحجة قولهم هذه الآية ، وما جاء عن الصحابة من نسخ بعض آيات لأخرى وإن كانوا يسمونه التخصيص كما أثر عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وقوله تعالى في سورة الطلاق :
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وفيها ظاهر التفارق في المتوفى عنها زوجها الحامل ، فقرر
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنها تعتد بوضع الحمل ، وهذا تخصيص للآية الأولى بأنها لغير الحامل ، فقال رضي الله عنه : أشهد أن سورة النساء الصغرى ، أي الطلاق نسخت الكبرى . وهي قد خصصتها ، ولكن كان السلف يعتبرون التخصيص نسخا ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
[ ص: 354 ] وإن النسخ في ذاته لا في القرآن بالذات لا ينكره أحد ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربي المؤمنين ، ويدع الدين الحق في قلوبهم ، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير ، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة ; بل لا بد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورا على رجاء التغيير ، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام ، وحب آدابه ، ولقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=662276ما من نبوة إلا تناسخت " أي حولت النفوس بالتدريج ، وترك أمور في مرتبة العفو حتى تتشرب النفوس الحقائق الإسلامية ، وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء ، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى ، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء ، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يتدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره ، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا .
لذلك كان النسخ وكانت الأحكام التي تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث .
ولكن هل يجيء النسخ في القرآن ، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ولكن نقول : إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه ، وتدل على الإمكان لا على الوقوع فعلا ، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي ، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية ، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء
عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى ، وإحياء الموتى من قبورهم ، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى ، وكعصا
موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر ، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات .
وإن المشركين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات
عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها ، فرد الله تعالى عليهم
[ ص: 355 ] بقوله :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها ، وفي ذلك إشارة إلى أن
معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة
موسى وعيسى ، لأن معجزاتهم حوادث تنقضي ، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا ، وشاهدوا ، أما معجزة القرآن ، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة .
وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة ، وذلك للأمور الآتية :
أولا - تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى :
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل ( على قدرة الله وصدق رسوله ) ، والمعجزة الكونية ، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف .
وثانيا - قوله تعالى :
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض 107 ) فذكر هذا النص السامي يدل قياسا أن النسخ أو الترك يكون لآية كونية بخير منها ، تكون أبقى وأعظم أثرا .
ثالثا - أنه كان لوم على طلب آية أخرى ، فقد قال تعالى :
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية ، ومعجزات النبيين .
ورابعا - أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ ، وليس في القرآن آيات تتعارض ، ولا يمكن التوفيق بينها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .
وإن الله تعالى إذا أنزل معجزة لنبي ، وبدل بها معجزة فذلك من كمال قدرته وليس لمؤمن أن ينكر معجزة ، ولا يطلب معجزة معينة ، وألا يقال : إن الرسول الذي جاء بالمعجزة القاطعة مغتر ، فقد قال تعالى :
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما [ ص: 356 ] ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون فإن الله العليم الحكيم هو الذي يختار من الآيات الدالة على رسالة أنبيائه ما يراه أقوى دلالة ، وأكثر بقاء ، فهو الذي يعلم الآيات كلها ، وهو الذي يدبر كل شيء بحكمته ، وإرادته ، وإن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو أعلم بمكان آيته ، ولقد قال تعالى في ذلك :
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي أي إنكار الوقوع ، فما بعدها يكون منفيا بها ، ولم نافية لما بعدها ، فيكون نفي النفي ، ونفي النفي إثبات ، كما يقر علماء البيان ، والنفي على طريقة الاستفهام فيه تنبيه بليغ ، لأن الاستفهام في ذاته فيه إثارة للانتباه ، والمعنى : تعلم أيها الرسول ، أن الله تعالى له السلطان الكامل في السماوات والأرض ، فله التدبير المطلق الذي لا قيد يقيده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فإذا اختار آية دالة على رسالة نبي مرسل ، فله أن يختار آية أخرى لنبي آخر ، فإذا اختار تسع آيات
لموسى ، واختار مثلها
لعيسى ، فله أن يختار
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - غيرها أبقى وأدوم ، وأقوى دليلا ، وتحديا للأجيال كلها الإنس والجن .
وإن الله سبحانه وتعالى ببيان هذا العلم الشامل الواسع يشير سبحانه وتعالى إلى بيان القدرة على عقاب من يكذب وينكر ، ويجحد بآيات الله تعالى ويقول حيث وضح الحق وقام ، إنما أنت مفتر ; ولذلك قال تعالى من بعد بيان شمول علم الله تعالى :
وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير وهذا أنفى لهم عند العذاب النازل بهم من أن يكون لهم ولي ، أي صديق ، أو ذو ولاية عليهم يحميهم بولايته ، ويكلؤهم بمحبته أو نصير ينصرهم والشدائد نازلة بهم يوم القيامة .
وقد أكد الله تعالى نفي الولي والنصير ، بمن التي تدل على استغراق النفي ، أي ليس للمعاندين لآيات الله تعالى ولي أي ولي كان ، ولا نصير أي نصير كان قويا أو ضعيفا ، وأكد سبحانه النفي بتكرار لا . وإن ذلك النفي المؤكد يفيد أنهم يجيئون إلى الله تعالى فرادى كما خلقهم أول مرة ، وهو سبحانه مالك يوم الدين .
[ ص: 357 ] أشرنا إلى أننا اخترنا أن يكون النسخ في هذه الآيات الكريمات هو نسخ الآيات الدالة على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن تغيير آية يأتي الله تعالى بخير منها أو مثلها ، وإن قدرة الله على ذلك ثابتة وله فيما يفعل حكم ظاهرة قد نعلمها بإدراكنا الناقص ، وقد تعلو على إدراكنا .
ولذا قال تعالى موجها الخطاب لأمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ملتفتا إليهم ، وهم يشملون الوثنيين واليهود فهم جميعا أمة محمد فقد أرسل إلى الناس كما قال تعالى :
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أم للإضراب عن الكلام السابق إضرابا لفظيا ، مؤداه علمتم أن الله على كل شيء قدير ، وعلمتم أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض ، وأنه يصرف الآيات لرسله الكرام فيختار لكل رسول آية ، ولا يستبعد أن تكون تلك الآيات كلها على نسق هذه الآية لمن يجيء بعده ، والله يصرف دلائله وآياته .
أتريدون يا من تخاطبون برسالة
محمد أن تسألوا رسولكم آية دالة على رسالته ، كما سأل اليهود
موسى من قبل ، أي أتريدون أن تختاروا معجزة دالة على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما سئل
موسى من قبل .
والاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أي أنه كان ممن خاطبهم
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ممن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء يحمله ملك ، ومنهم من سأل أن يكون المبعوث ملكا ولا يكون رجلا يمشي في الأسواق ، كان ذلك من المشركين ، ومن أهل الكتاب ، وقد قال تعالى في سؤال أهل الكتاب :
يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا [ ص: 358 ] والمخاطبون في قوله تعالى :
أم تريدون أن تسألوا رسولكم هم الذين خوطبوا برسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم الناس جميعا ، مشركوهم وأهل الكتاب فيهم ، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحمر والأسود والذين طلبوا تغيير المعجزة المحمدية بغيرها من المعجزات الحسية كان منهم المشركون واليهود فهم أخص من بعث إليهم بالخطاب .
وقوله تعالى :
أم تريدون أن تسألوا رسولكم إلى آخره فيه الاستفهام متجه إلى إرادة السؤال لا إلى السؤال نفسه ، وإذا كان الاستنكار للإرادة فهو للسؤال أشد لأنه إذا استنكرت ذات الإرادة ، فالأولى يكون للفعل ، وإنهم ما أرادوا المشابهة بين فعلهم وفعل بني إسرائيل من قبل ، إنما نبههم الله تعالى إلى المماثلة بقوله :
كما سئل موسى من قبل أي مثل ما سئل
موسى من قبل .
وإن ذلك انحراف عن السبيل ، وترك للحق ، وانصراف عما يوجبه الدليل ، إلى سؤال عن دليل آخر مع سلامة هذا الدليل الذي يعترضون عليه ; ولذا قال تعالى :
ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل أي ومن يجعل الإيمان في مقابل الكفر فقد سار في طريق منحرف ولم يسلك السبيل المستقيم ، وضل يعني بعد ، ومعنى ذلك أن من يطلب الكفر يترك سواء السبيل والقصد ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين :
أولا - أنهم ضلوا القصد ولم يسلكوا سواء السبيل أي وسطه ; لأن وسط السبيل لا يكون اعوجاجا ولا انحرافا ، وأنهم إذ ضلوا سواء السبيل وبعدوا عنه سلكوا طريق الكفر ، واختاروه على الإيمان .
ثانيا - أن السبب في سلوكهم طريق الغي والضلال وطلبهم معجزات يريدونها هو أنهم في أصلهم جاحدون كافرون ، ومن ترك الطريق الواضح مع وضوحه وقيام برهانه فقد كفر ; لأنه يتبدل الكفر بالإيمان .
* * *