قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ ص: 2460 ] في الآيات السابقة بين الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وفاطرها على غير مثال سابق، وكيف خالف المشركون الفطرة الإنسانية، والعقل المستقيم، وأشركوا بأحجار في عبادة الله لا تنفع ولا تضر، وبين سلطانه تعالى، ثم ذكرهم سبحانه بنوازل تنزل بهم، فهو الذي يكشف الضر إن نزل، وهو الذي يسوق الخير بفضل قدرته ومنته. وفي هذه الآيات يذكرهم سبحانه بإشراكهم مع قيام المعجزة القاطعة بأنه سبحانه وتعالى هو الله وحده، فالآيات السابقة كانت في الآيات الكونية المثبتة للوحدانية، والآيات اللاحقة تثبت الوحدانية بالدلائل السمعية المثبتة للوحدانية والتي ثبت صدقها بالمعجزة القاطعة، وهي القرآن الكريم; ولذا قال تعالى:
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم
فرض النص الكريم أن خصومة بين
محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو الداعي إلى الوحدانية، والمشركين الذين يرتعون في الوثنية، وأن هذه الخصومة تحتاج إلى شاهد يشهد، وأنه لابد من شاهد يفصل، وحاكم يحكم ويقضي، فأمر الله تعالى
[ ص: 2461 ] نبيه في بيان رائع حكيم، أن يسأل المشركين عن أي شيء في هذا الوجود أكبر وأعظم وأقوى وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد، وكان الكلام في صيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد، وتنبيها إلى سلامة دعوى
محمد -صلى الله عليه وسلم- ليدركوا حقه وضلالهم، ثم نبههم إلى الإجابة السليمة للسؤال التنبيهي التي لا تقبل مراء ولا جدلا، وهو أن أكبر شهادة هي شهادة الله سبحانه وتعالى، الذي خلق الكون وهو الذي يحوط كل ما فيه بالحياطة الكاملة، والتهذيب والتربية، فقال تعالت كلماته:
قل الله شهيد في هذه الخصومة التي فرضتموها، هي خصومة الباطل اللجلج مع الحق الأبلج، وقد تكلم
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في بيان لفظي بلاغي، فذكر أن في النص الكريم توجيهين:
أحدهما: أن الإجابة تنتهي عند قوله: " الله " وأن ما بعد ذلك تقرير للشهادة، ف:
شهيد يكون جملة جديدة؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف، ويكون المعنى على هذا التخريج: قل الله ذو الجلال والإكرام والعزة وصاحب الإنعام في هذا الوجود، وهو كاف، وهو أكبر شهادة، ولا شهادة بعد شهادته، وهو يشهد بالحق وبالوحدانية، يشهد بما جاء في القرآن بعد أن شهد بما خلق وأنشأ، ثم بين أنه هو شهيد في هذه الخصومة.
والتخريج الثاني: أن الإجابة تكون في نهايتها عند
شهيد فالمعنى: قل إن الله تعالى شهيد، ف:
شهيد تكون خبرا للفظ الجلالة ابتداء، وكلاهما توجيه ليؤكد معنى الشهادة في النص القرآني.
ولماذا كانت شهادة الله تعالى أكبر شهادة; لأنها التي تتفق مع العقل، ولأنه المنشئ، ولأنه الباقي وكل شيء هالك إلا وجهه.
وما الدليل على شهادة الله تعالى; نقول: هي بيناته، وهي التي ينطق بها القرآن الذي قام الدليل على أنه من عند الله تعالى العزيز الحكيم; ولذلك جاء ذكر القرآن الناطق بالحق، فقال تعالى:
[ ص: 2462 ] وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ
هذا النص فيه المعجزة التي تدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو يشتمل على شهادة الله القولية بأنه واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، وأنه القادر على كل شيء، وأنه القاهر فوق عباده، وهو أمر حسي يتلى عليهم ليلا نهارا، ويقرأ عليهم جهارا، وكان معجزا ببلاغته، وما فيه من علم، وما فيه من قصص صادق، وما فيه من شرائع منظمة للعلاقات بين الناس في أسرهم ومعاملاتهم، واجتماعهم، وعلاقات الإنسانية بعضها ببعض، ولقد قال -صلى الله عليه وسلم- في إثبات أنه المعجزة التي تحدى بها الناس أن يأتوا بمثلها فعجزوا عجزا مبينا:
nindex.php?page=hadith&LINKID=654598 "ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي به إلي، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". ولماذا كانت معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- قرآنا يتلى، وتولى سبحانه حفظه من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة كما قال تعالى:
إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون
والجواب عن ذلك أن معجزات الأنبياء السابقين كانت تقع ولا يعلم بها على اليقين إلا الذين عاينوها وشاهدوها، والذين من بعدهم لا يعلمونها إلا بالخبر الذي لا شك فيه. أما شريعة
محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنها باقية خالدة إلى يوم الدين فلا بد أن تكون معجزاتها قائمة حاملة معنى الإعجاز والتحدي ما دامت الشريعة قائمة خالدة، فلا بد أن يكون القرآن الكريم حجتها خالدا بخلودها.
والنص القرآني الذي نتكلم فيه اشتمل على أمور ثلاثة:
أولها: بيان أنه المعجزة المثبتة لصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ذكر ذلك بالإشارة؛ إذ قال:
وأوحي إلي هذا القرآن وقد ثبت بالتحدي عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
[ ص: 2463 ] ثانيها: أنه مشتمل على الإنذار للمشركين والمخالفين والعصاة إن استمروا على غيهم، ولم يستجيبوا لنداء ربهم، ودعوة نبيهم إلى الوحدانية والفضيلة، وتكون مجتمع سليم نقي.
ثالثها: أن النص يتضمن أن القرآن حجة وإنذار لكل من بلغه سواء خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم- أم بلغه، وقد بين ذلك قوله تعالى:
لأنذركم به ومن بلغ أي: أن من بلغ القرآن فهو مخاطب به، سواء أكان من العرب أم كان من العجم، وكأنه خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:
"بلغوا عن الله تعالى، فمن بلغته آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله"، وروي عن جمع من التابعين أنهم كانوا يقولون: (من بلغه القرآن فقد أبلغه
محمد صلى الله عليه وسلم). وإن هذا النص يستفاد منه أمران:
أولهما: أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا، فإنه لا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية، وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها.
ثانيهما: أنه لا معذرة لمن يعرف القرآن، في الكفر بالحقائق الإسلامية.
ولكن كيف التبليغ بالقرآن، والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية أو غيرهما؟
والجواب عن ذلك أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام; التي هي فرض كفاية على المسلمين; يأثم المسلمون جميعا إن لم يكن دعاة إلى الإسلام - يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيرا موجزا تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية.
أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد [ ص: 2464 ] شهادة الله التي فصل بها في القضية، ونطق بها القرآن الكريم; ولذا أحيل بيانها إلى القرآن في قوله تعالى:
وأوحي إلي هذا القرآن وفي هذا النص السامي يقابل بينها وبين شهادتهم وما يتبعه النبي -عليه الصلاة والسلام- أيتبع الله تعالى العلي الحكيم أم يتبع أهواءهم؟! معاذ الله أن يتبع الهوى بل إنه يتبع الهدى. والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، فهم وقع منهم ذلك، وتأكد وقوعه ولم ينكروه; ولذلك كان تأكيد وقوعهم بأن قال تعالت كلماته:
أإنكم فهو إنكار لهذا الأمر الواقع منهم وقوعا مؤكدا، وإنكار الواقع توبيخ، فالاستفهام هنا يتضمن معنى تقرير ما وقع منهم وتوبيخهم عليه، وعبر بـ: تشهدون للإشارة إلى قوة الضلال في نفوسهم؛ إذ إنهم مع ضلال الفكرة الوثنية يعتقدونها أشد الاعتقاد; لأن الشهادة لا تكون إلا بالعلم اليقيني، فهم يؤمنون بـ: " تشهدون " بالشرك أي: بأن مع الله آلهة أخرى، وتسمية الأوثان التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة; لأن ذلك في زعمهم، فليست آلهة ولا يمكن أن تكون آلهة؛ إذ هي أوثان أو أشياء أو أشخاص لا يكون منها نفع ولا ضرر، وليست مفيدة في ذاتها، وهم يعبدونها، فهي بزعمهم آلهة.
ووصفت بـ: (أخرى) مع أنها جمع، وكان الظاهر أن توصف بـ: (أخر) ليوصف الجمع بالجمع، ولكن لأنها مشتركة في وصف جامع وهو أنها أحجار فهي في المعنى شيء واحد; لذا وصفت، فهي في المعنى واحد، وكذا وصفت بما يوصف به الواحد لا بما يوصف به العدد، والوصف بـ: (أخرى) فيه إشارة إلى بطلان عبادتها.
وإنه من المبالغة في التوبيخ والتنديد أن يأمر الله تعالى نبيه بألا يشهد بما يشهدون، بل يشهد بشهادة الحق، فيقول تعالى:
قل لا أشهد
وفي أمر الله تعالى له بالقول مع التنديد لهم والتوبيخ لهم ما يدعو إلى الاقتداء والتأسي به -صلى الله عليه وسلم- وهو العاقل الصادق الأمين المعروف بذلك بينهم جاهلية وإسلاما، وإن ذهبت اللجاجة ببعضهم إلى إنكار المعروف بلسانه لا بقلبه.
[ ص: 2465 ] قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون
هذا تقرير وتأكيد لمعنى الجملة السابقة؛ وهي: لا أشهد، وتحتمل أن تكون داخلة في مقول القول، ويكون مقول القول: لا أشهد وإنما هو إله واحد، ويحتمل أن تكون جملة مبتدأة، والفصل في الأول يكون لأنها بيان لما قبلها، وفي الثانية يكون لابتداء الكلام، وإن كان في المعنى فيه تقرير لما سبقه.
والضمير (هو) يعود على الله تعالى، وهذا النص السامي تضمن أمرين: أولهما: وحدة الله تعالى، وقد نص عليه بقوله تعالى:
إنما هو إله واحد وهذا يفيد قصر الألوهية على الله تعالى فلا يعبد سواه سبحانه، ويفيد مع ذلك أنه لا يتصور أن يكون المعبود بحق غير واحد; لأن المنشئ المكون المدبر واحد، ولا يتصور بمقتضى النظر إلا أن يكون المعبود واحدا.
الأمر الثاني: التصريح ببراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يعبدون من أوثان يشركون بها مع الله تعالى:
وإنني بريء مما تشركون في هذا النص تنديد شديد بعبادة الأوثان; لأن الرجل العاقل يتبرأ منها، ولا يليق أن يعبدها، وقد أكد براءته بـ: (إن)، وبالوصف (بريء) وبأن ذلك انتحال منهم، وليس ألوهية في شيء.