[ ص: 2471 ] ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
الكلام موصول في المشركين الذين تقوم لديهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله تعالى وسلطانه تعالى عليهم في الدنيا، وإثبات رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعجزة التي تحدى
العرب فيها أن يأتوا بمثلها، وبيان ظلمهم، ثم بين سبحانه بعض حالهم يوم القيامة، وكيف يغيب عنهم ما كانوا يفترونه، وفي هذه الآيات يبين حالهم عند تلقي الدعوة المحمدية.
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا
الأكنة جمع كنان، وهو الغطاء، والمعنى أنه لا يصل الحق إلى قلوبهم لوجود ذلك الغطاء الحاجز المانع من أن يصل نوره إلى قلوبهم، بل إنه لا يصل إلى مسمعهم، فقد جعل الله تعالى في آذانهم وقرا، والوقر، بفتح الواو ثقل السمع، وهذا النص كناية عن كمال الإعراض، فهم لا يصل إليهم القرآن،
[ ص: 2472 ] وقد تفاهموا فيما بينهم على الإعراض
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون وإذا وصل إلى سمعهم فهنالك غشاوة على قلوبهم تمنعهم من أن يشرق فيها نوره، وعلى ذلك لا يكون لاستماعهم جدوى وفائدة، وهنا يسأل سائل: إذا كان منع الهداية من الله تعالى بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها، وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر وطلب للهداية فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟ والجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى يسير الأمور وفق حكمته العليا، فمن يسلك سبيل الهداية يرشده، وينير طريقه، ويثيبه، ومن يقصد إلى الغواية، ويسير في طريقه تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر، ومن لم تجد فيه النذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا، ولم تبصره من عمى، فقد وضع الله تعالى على قلبه غشاوة، وفي آذانه وقرا.
وقوله:
أن يفقهوه المصدر المكون من (أن) وما بعدها مضاف إلى مصدر محذوف يقدر على ما يناسب المقام من وضع غلاف يمنع النور، ووقر يمنع السمع، فيكون التقدير: كراهة أن يفقهوه أو لمباعدة أن يفقهوه، ومعنى يفقهونه أن يدركوه إدراكا عميقا، ينفذون فيه إلى لبابه وغاياته، فليس المراد مجرد الفهم والمعرفة، بل المعرفة النافذة التي تصل إلى اللب وتستولي على القلب.
وإن سبب ذلك كله هو الإعراض المطلق الذي سيطر على كبرائهم، وسبق الكفر إلى قلوبهم ومعارفهم، ومع هذا الإعراض، وبسببه يحكمون من غير أن يفقهوا فيقول ما حكاه الله عنهم:
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا
والكافر بالحق المعرض عن الأدلة يسبق كفره إيمانه، فالكفر سابق على التثبت والاستدلال، فهو متجه إلى الإنكار ابتداء; ولذلك وصف الله تعالى الذين
[ ص: 2473 ] مردوا على الجحود والإنكار، وقال فيهم:
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها والآية
الدليل المعجز على رسالة الرسول، فالآية كما يقول العلماء لعموم النفي، أي: أنهم لا يؤمنون بأي رسالة يرونها مهما تكن قوتها ظاهرة، ومهما تكن دلالتها قاهرة; لأن العناد والجحود يقهر كل حجة ويمنع سلطانها على القلب; إذا ختم عليه، حتى لا ينفذ النور إليه، فإذا كفروا بالقرآن فذلك شأن الذين طبع الله على قلوبهم، وجعل في آذانهم وقرا، وعلى قلوبهم أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة; ولذلك قالوا في معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جادلوا كما حكى الله تعالى عنهم:
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ويلاحظ هنا أن الله تعالى يقول:
إذا جاءوك يجادلونك فيه إشارة إلى أنهم كانوا بعداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبل ثم جاءوه، ولم يكن مجيئهم إذعانا لحق، ولا طلبا لحقيقة، ولكن كان تحديا للرسول ومبالغة في الإنكار، واستهانة بالقرآن الحكيم وهو الآية الكبرى; ولذا قال الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير، والأساطير جمع أسطارة أو أسطورة، والمعنى ما هذا إلا أخبار الأقدمين. وهنا إشارتان: أولاهما: أنهم ما جاءوا يطلبون الحق، ولكن جاءوا يجادلون، تقال للتسلية. ومنها ما يكون غير صادق، والجدل في أكثر أحواله تمويه، وليس طلب حق.
والثانية: أن الذين كفروا يقولون: ما هي إلا أساطير الأولين بسبب كفرهم فكفرهم سابق لرفضهم المعجزة.