قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ ص: 2484 ] (قد) هنا للتحقيق وتأكيد العلم، وقد حاول بعض العلماء أن يجعلها للتكثير، ولكن التحقيق جاء من موضوعها لا من ذاتها، وإني أقول: إني لا أعلم أنها جاءت في القرآن داخلة على المضارع إلا بمعنى التأكيد، وكتاب الله تعالى فوق ما يقرره علماء النحو واللغة.
وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحزنه أن القوم لا يؤمنون، ويفترون الكذب عليه، ولقد نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم، فقال تعالى:
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقال تعالى:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ولقد كان يحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفرهم، وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين، ولقد ذكر الله تعالى أنهم لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، و: (الفاء) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية، تقديره مثلا: فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك،
ولكن الظالمين بآيات الله والجحود نفي ما في القلب ثبوته، وإثبات ما في القلب نفيه؛ أي: عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته، وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق
محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم يمارون في الحق، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته، وقد روي أن طاغوت الشرك
أبا جهل عوتب في أنه صافح النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة فقيل له في ذلك فقال: إني لأعلم أنه النبي، ولكن متى كنا
لبني مناف تبعا؟!
وهذا على أساس أن الجحود في الآية منصب على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يعرفون صدقه، ولكن لا يذعنون له، فيكونون جاحدين، وهناك تخريج بياني آخر، وهو أن الجحود منصب على آيات الله تعالى وليس تكذيبا، فهو تعزية للنبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة أنهم لا يكذبونه، ولكن يقرون في ذات أنفسهم، ولكن يجحدون بشهادة ربهم على صدقه، فهم أشد وبالا.
وهنا إظهار في مقام إضمار إذ إنه سبحانه وتعالى قال:
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولم يقل:
ولكنهم وذلك لبيان سبب الجحود وهو الظلم
[ ص: 2485 ] المستقر في نفوسهم، وفيه فوق ذلك تسجيل الظلم عليهم، وهم بذلك مستحقون للعقاب.