ليس بوالد ولا ولد
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
* * *
تكلم القرآن الكريم عن اليهود ، وخياناتهم وغدرهم في ماضيهم وحاضرهم وكفرهم بآيات الله تعالى ، ومع ما صنعوا ادعوا أنهم أهل الجنة ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما ، وقالوا مع النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ، وذكر عنهم اختلافهم وتنابذهم مع أنهم يتلون الكتاب ، ثم أشار سبحانه إلى كلامهم في شأن القبلة ولجاجتهم في التشنيع على المسلمين بشأن تحويل القبلة إلى
الكعبة يقول تعالى :
ولله المشرق والمغرب [ ص: 377 ] وبعد ذلك يشير إلى الوثنية في الديانة النصرانية المثلثة ، التي ابتدأت بادعاء أن
المسيح ابن الله ، وإذا كان اليهود قد شاركوهم في أن عزيرا ابن الله ، فإنهم لم يلجوا فيه ، ويجعلوه جزءا من دينهم ، كما لج النصارى قبحهم الله ، وزادهم ضلالا فوق ضلالهم ، ووهما فوق أوهامهم فقد ضلوا سواء السبيل ولا أمل في هدايتهم إلا أن يتخلصوا عن هذه الأوهام وإلا فذرهم في غيهم يعمهون ، وإن الله تعالى يهدي من يشاء .
وقالوا - أي النصارى ومن قاربهم من اليهود ، وإن لم يلجوا لجاجتهم - قالوا وعليهم إثم ذلك القول لأنه اختراع كاذب ، ونسب سبحانه وتعالى القول إليهم ، لأنه ضلالهم الذي به ضلوا ، وخرجوا عن التوحيد إلى الوثنية .
وقولهم هو :
اتخذ الله ولدا أي أن الله تعالى هو الذي اختار ولدا ، أو جعله ولدا ، وهذا يدل على زعمهم الباطل من أن الله تعالى احتاج إلى أن يكون له ولد ، ورغب فيه وأراده ، أو اشتهى كما يشتهي الأحياء أن يكون له ولد لحاجته إليه .
وقد
رد الله تعالى عليهم ذلك الزعم بأربعة أدلة تدل على بطلان ذلك الزعم الوثني الذي يشابه مقالة عبدة الأصنام :
الدليل الأول : قوله تعالى :
سبحانه أي تنزه عن ذلك وتقدست ذاته العلية أن تكون مشابهة لأحد من الحوادث الذين يتوالدون ويتناسلون ، فهو الواحد الأحد الذي لا يشابه أحدا من خلقه ، ليس كمثله شيء ، ولو كان له ولد لكان مشابها للحوادث ولكان له زوج ، كما قال تعالى :
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وأنه لو كان له ولد تولد منه لكان له والد ، وهو منزه عن ذلك فهو الواحد الأحد الذي ليس له والد ولا ولد .
الدليل الثاني : أنه لو كان له ولد لكان مفتقدا إلى من يكمل وجوده ; لأن الولد امتداد لأبيه ، فهو كمال وجوده ، والله تعالى ليس بمفتقر لأحد ; لأنه الكامل المنفرد بالكمال ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك الدليل بقوله :
بل له ما في السماوات والأرض وبل هنا للإضراب والانتقال من تنزيه إلى تنزيه ، والمعنى أن له
[ ص: 378 ] الملك الكامل والسلطان التام في السماوات والأرض ، فيستحيل أن يكون محتاجا إلى ولد ، بل كل الوجود في سلطانه ، وليس فقيرا إلى ولد يعينه ، وهو يقول :
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد وأن كل شيء خاضع لسلطانه مسبح بحمده كما قال تعالى :
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا
الدليل الثالث : أنه إذا كان الوجود كله ملكا له ، فكيف يتخذ ولدا ، وإنه إذا كان الوجود كله ملكا له ، فكيف يكون محتاجا له ، وإن الوالد قد يحتاج للولد ليكون مسخرا في حاجاته يقوم بحق الوالد عليه ، والله لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوجود كله في قبضة يده ، وكلهم خاضعون له ; ولذلك قال :
كل له قانتون والقنوت : هو الخضوع المطلق ، والعبادة والتسبيح له سبحانه وتعالى . والتنوين في قوله تعالى : ( كل ) دال على عموم كل من في الوجود خاضع لله تعالى لا يحتاج إلى من يكون في طاعته .
والقنوت يشمل العبادة من ذوي الإرادة ، ومن يقنتون بمقتضى التكوين الفطري ، والتكوين كما قال تعالى :
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
الدليل الرابع : أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات والأرض على غير مثال ، وخلق الوجود كله الأرض والسماء والأحياء فهو الذي ذرأ من في السماوات والأرض ، وكلهم عبيده ، كما قال تعالى :
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا فكيف يكون له ولد ، وأنه إذا كان له ولد ، فإنه يكون من جنسه ، ويكون من مثله والله المبدع للوجود والخالق منزه عن أن يكون بعضه من الحوادث والولد بعض أبيه وبضعة منه .
وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى :
بديع السماوات والأرض وبديع بمعنى مبدع أي منشئ على غير مثال سبق ، وقد أخذ بعض المفسرين من هذا دليلا
[ ص: 379 ] على أنه لا يمكن أن يكون الإبداع متفقا مع اتخاذ الولد ، فقد قال
الراغب في ذلك : " إن الأب هو عنصر للابن منه تكون ، والله مبدع الأشياء كلها فلا يمكن أن يكون عنصرا للولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا " اهـ .
وإن هذا بلا ريب يتنافى مع الإبداع .
وإن الذين قالوا : إن الله اتخذ ولدا قالوا : إنه نشأ عنه ملازما له ، كما ينشأ الضوء من الشمس وكما ينشأ النور من السراج ، أي أنه نشأ من الموجد الأول نشوء المعلول من علته والمسبب عن سببه ، وهم قالوا ذلك آخذين له من الفلسفة ، وهي الأفلاطونية التي تتوافق مع النصرانية تمام التوافق ، وهي بعد أن حرفت عما جاء به
المسيح عليه السلام كما هي والأفلاطونية الحديثة على سواء .
فهم يقولون : إن الله ليس فاعلا مختارا وإنما نشأ الولد نشوء المعلول عن العلة ; ولذلك كان رد الله تعالى عليهم بإثبات ملكه وقدرته على الخلق والتكوين ، وأنه أبدع السماوات والأرض بإرادته رد لكفرهم وضلال عقولهم ، وأوهامهم الباطلة ، التي ضلوا بها ، وأضلوا الناس بالدعوة إلى تصديقها .
ولقد بين سبحانه إرادته المختارة بأنه مبدع السماوات ، وبقوله تعالى :
وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي أنه إذا أراد خلق شيء ممكن قال له كن فيكون .
والواو عاطفة والمعطوف عليه بديع السماوات والأرض ، " بديع " صيغة مبالغة بمعنى مبدع فهي في معنى الفعل ; ولذا صح عطف الفعل عليها ، أو عطف الجملة الفعلية عليها .
وهي بيان الاختيار والفعل المنافي للتوالد ، وقضى بمعنى أنشأ وخلق وكون ، والأمر هنا هو بمعنى الشيء فإذا أراد الله تعالى خلق شيء لا يكون بتوليد شيء في شيء أو مادة من مادة ، إنما يكون بكلمة يقولها وهي " كن " والأمر أمر تكويني فيكون الشيء الذي أراده الله تعالى .
[ ص: 380 ] وهذا يدل على أمرين :
أولهما - أنه سبحانه وتعالى فاعل مختار يفعل ما يريد ، وأن الأشياء نشأت بإرادته المختارة ، فهو فعال لما يريد ، والأشياء لم تنشأ نشوء المعلول عن علته ، أو المسبب عن سببه .
ثانيهما - أنه لا يمكن أن يكون له ولد ; لأن الولد يتولد عن والد ، ولا يخلق الله تعالى الأشياء بطريق التوالد ، من توليد لاحق بسابق ، بل إنه سبحانه وتعالى ينشئ في الابتداء ، والتوالد بين الأحياء يكون بسلطانه ، وبحكمته وهو العزيز العليم .
إن المسيحية بعد
المسيح عليه السلام سارت في ذلك المسار الذي انتهى بوثنيتها وانحرافها ، وتحللها من العقيدة التي دعا إليها
المسيح عليه السلام ، وهي عقيدة
المسيح ، وأنه رسول الله تعالى ، وأنه عبده
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله وقد تم ذلك على النحو التالي :
أ - عندما توفى الله
المسيح إليه ، توالى التعذيب على أتباعه ، والتعذيب ابتدأ في حياته عليه السلام في هذه الدنيا فقد اضطهده اليهود ودسوا عليه عند الرومان حتى هموا بصلبه ونجاه تعالى إذ شبه لهم ، وما قتلوه وما صلبوه وتوالى من بعد ذلك تعذيب الرومان ، في عهد ملوك كثيرين منهم ، فكان منهم نيرون الذي كان يطلي أجسامهم بالقار ويشعل فيه ، ويسيرون في مواكبهم مشتعلين ، وكان زينة موكبه تلك المشاعل الإنسانية ، ومنهم دقلديانوس الذي قتل مقتلة عظيمة في سنة 282 ، وإنه في وسط هذا الاضطهاد كان المسيحيون يقيمون شعائرهم الدينية في الخفاء إذ كلما ظهروا عذبوا ، وكانوا إذا ظهروا أخفوا عقائدهم فكانوا يفتشون القلوب وينقبون عن خبايا النفوس ، ولا يسلم الدين مع هذا الاختفاء إذ لا يكون مرشد هاد ، ولا رقيب يمنع دخول الزيف في دينهم .
ب - وفي هذه العصور دخلت عناصر من الوثنيين يحملون وثنيتهم ، وخلطوا ما بينها وبين عقيدة التوحيد التي جاء بها
المسيح عليه السلام ، وإن الاختلاط بمرضى الحقائق يجعل الضلال يسري إليهم كما تسري عدوى الأمراض .
[ ص: 381 ] ولعل أشد الوثنيين الذين أغاروا عليهم -
بولس ، الذي سموه رسولا ، فقد كان عدوا
للمسيح في حياته في هذه الدنيا ، كان إلبا عليه يحرض الرومان ، ثم ادعى أنه دخل المسيحية ، وما دخل ، أو دخلها ليخربها وهو أول من أدخل الوثنية فيها ، واطرح فيها تعاليم
المسيح اطراحا .
جـ - وقد كانت الأفلاطونية الحديثة تتكون ، وأساسها أن الأوثان الرومانية فقدت قوتها ، والفلسفة هي الأخرى فقدت سلطانها ، فأرادت الأفلاطونية الحديثة أن تصل إلى نفوس الرومان باسم الدين وأرادت أن تجمع من بقايا من الوثنية ، ومن اليهودية والنصرانية التي ظهرت دينا جديدا ، فكانت النصرانية التي خرجت عن دين
المسيح عليه الصلاة والسلام ، وهي جمعت بين الوثنية بألوهية
المسيح وروح القدس مع الله ، واليهودية باعتبار التوراة أصلا لها فصارت النصرانية .
والأفلاطونية الحديثة التي يعد أكبر رؤسائها أفلوطين المتوفى سنة 27 ميلادية تعتقد أن العالم نشأ عن الشيء الأول ، وهو الله أو العقل الأول عندهم ، ثم نشأ عنه العقل الثاني وهو ما سمي عند النصارى بالابن ، ثم نشأ عنهما الروح العامة المتصلة بالمخلوقات جميعا .
د - مع هذه الأعراض التي ظهرت في المسيحية ، ومع هذه المحاولات الوثنية كان التوحيد هو المسيطر وهو الأكثر أتباعا في القرون الثلاثة الأول والثاني والثالث ، وخصوصا في الأول والثاني ، وإذا كانت وثنية تظهر ، فإن الكثرة الموحدة تطردها كما يطرد الجسم السليم بحيويته الأمراض ويتغلب عليها ، واستمرت كذلك طول هذه القرون الثلاثة .
حتى جاء بطريق
الإسكندرية ، وهي موطن الأفلاطونية الحديثة ، جاء باتفاق مع
قسطنطين إمبراطور الرومان في أول القرن الرابع ، وادعى أن التوحيد بدعة في المسيحية ، وأن الأصل فيها ألوهية
المسيح في زعمهم ، وأن
أريوس الموحد وكان في
الإسكندرية قد ابتدع التوحيد مع أن كل كنائس
مصر والشام موحدة لا يرتاب أتباعها في ذلك .
[ ص: 382 ] وأنه يجب طرد
أريوس الموحد المنكر لألوهية
المسيح من المسيحية ، مع أنه صورة للكثرة المسيحية الكاثرة التي كانت منبثة في ربوع
مصر والشام .
هـ - دعي بسبب هذا لعقد مؤتمر عام في نيقية الذي عده النصارى المصدر الأخير لديانتهم ، دعي في هذا الجمع العام 2048 ، ثمانية وأربعون وألف أسقف ، وجرى بينهم اختلاف ، والسائد فيهم التوحيد وإن كان فيه انحراف من بعض الطوائف .
ولكن
قسطنطين يريد الدخول في النصرانية ، بعد أن يصيرها قريبة من دينه بإدخال الوثنية فاختار من هذا العدد الكبير 318 أي ثمانية عشر وثلاثمائة ، وقد رضوا بما يدعو إليه ، وسلطهم على المسيحيين كلهم وأعطاهم شارة الملك وصولجانه .
فقرروا ألوهية الابن أي
المسيح بقيادة بطريق
الإسكندرية مهد الأفلاطونية الحديثة ، وكان ذلك المجمع سنة 325 .
ولكن المسيحيين عارضوا ذلك المجمع ، واعتبروه خارجا على المسيحية ، وأيدت المعارضة مؤتمرات في
الشام كمؤتمر
صور .
ولكن الأفلاطونية الحديثة لم تتم فصولها ، فقد تقررت في هذا المجمع ألوهية الابن في زعمهم ، ولكن ثالوث الأفلاطونية الحديثة الله أو الأب ، أو العقل الأول ، والابن أو العقل الثاني ، وروح القدس لم يتقرر بعد ! ولذا كان لا بد من أن يتقدم بطريق من
الإسكندرية سنة 381 بطلب تقرير ألوهية روح القدس فانعقد مؤتمر
القسطنطينية ، وقرر باقتراح بطريق
الإسكندرية ألوهية روح القدس .
وبذلك تم ثالوث النصارى ، وهو ثالوث الأفلاطونية الحديثة
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وهم بهذا وثنيون يشركون مع الله أحدا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
* * *