وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
انتهى
إبراهيم بعد أن تعرف الكواكب وأحوالها، وأن واحدا منها لا يمكن أن يكون الذي يعبد، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر اتجه إلى خالق الكون، واعتزل الشرك، وقال:
وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وبعد هذا أخذوا يحاجونه في أمر أصنامهم وقوتها وهددوه بأنه سيصيبه منها ضرر، وهو يقول لهم: إن كانت تكيد وتضر، فكيدوني ولا تنظروني.
والمحاجة التي أقاموها بينهم وبينه كانت محاجة بين اثنتين: أحدهما اعتمد على الهداية والعقل، والثاني اعتمد على الخرافة والوهم، ولقد قال تعالى:
[ ص: 2566 ] وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني والمحاجة أن تكون مناظرة، ويقدم كل واحد من المتناظرين حجته ويدلي ببرهانه، وقد عجب
إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يحاجوه في الله تعالى منكرين له، وقال:
أتحاجوني في الله وقد هداني والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، فهو يوبخهم ويؤيسهم من نتيجة المحاجة فيقول:
وقد هداني أي: أنه لا مطمع لكم في أن أعود إلى عبادة الأصنام وقد هداني الله تعالى ووفقني لأن أدرك أنه وحده المعبود بحق، ولا معبود سواه.
وتدل الآية الكريمة على أن أوهامهم زينت لهم أن أصنامهم قادرة على إنزال الأذى فخوفوه من الأذى، وقد ذكر سبحانه وتعالى محاجتهم
لإبراهيم -عليه السلام- في مواضع من كتابه العزيز، فقد قال تعالى:
قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين
وجاء في محاجتهم:
واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين
هذه عبارات من المحاجة التي أثبت بها أنه سبحانه وتعالى هداه، ولا يصح أن يتوهموا أنه يعود إليهم بعد أن هداه الله وقد هددوه بأن تصيبه آلهتهم بأذى رجاء أن يخاف ويسكت عن أصنامهم فحطمها، وجعلها جذاذا إلا كبيرها.
ولكنه قد اعتصم بالله تعالى، وهو يرى أنها لا تضر ولا تنفع، وهكذا نجد العقل والهدى في صدام مع الوهم والضلال; ولذا قال لهم في إدراك عقلي مستقيم:
[ ص: 2567 ] ولا أخاف ما تشركون به أي: إنني لم يستول علي الوهم كاستيلائه عليكم، فأخاف مما تشركون عبادته مع الله تعالى، فأنا أعلم أنها لا تضر ولا تنفع، وهي أحجار صماء، تنقل من مكان إلى مكان فكيف أخاف منها، كيف أخاف من حجر لا يسمع ولا يبصر، تصنعونها بأيديكم وتعبدونها بأوهامكم.
وقد كان
إبراهيم حريصا في إجابته، ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم، فقطع عليهم -عليه السلام- أسباب ذلك، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى:
إلا أن يشاء ربي شيئا هذا استثناء يدل على أمرين: أولهما: تفويضه لله تعالى في كل أموره، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له، يتقبل ما يأتي به، وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء.
ثانيهما: الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا، إنما الأمر كله لله وحده، هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء.
وأنه قادر على ذلك، وهو القادر وحده، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان، وما سيكون؛ ولذا قال تعالى:
وسع ربي كل شيء علما وهو تمييز محول، ومعناه: وسع علم ربي كل شيء، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق، وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت.
وذكره لله تعالى بوصف "ربي" للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما، فهو الذي رباه، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء، إلا أن يكون ذلك من حكمة أرادها، وهو العليم الخبير.
ثم قال تعالى:
أفلا تتذكرون الهمزة للاستفهام، والفاء للإفصاح، والمعنى: إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى وأن أحجاركم لا تنفع ولا تضر، أفلا
[ ص: 2568 ] تتذكرون الأمور، وتعرفونها على وجهها، والاستفهام هنا للتحريض على التذكر، ولقد كان حالهم مع إبراهيم، كحال قوم هود مع نبيهم فقالوا له:
قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها
إن حال هؤلاء الذين ساروا وراء الأوهام عجب، يخوفون نبي الله تعالى من أن يصيبه سوء من أحجارهم التي لا تضر ولا تنفع كما هو مشاهد بالحس ومدرك بالعقل، ومع ذلك لا يخافون أن ينزل بهم مقت من الله تعالى الذي يملك الوجود كله، آلهتهم، وغيرها.
ولذا قال تعالى على لسان
إبراهيم عليه السلام: