[ ص: 392 ] إبراهيم وبناء الكعبة
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
* * *
بعد أن قص الله تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل وما كفروا به هذه النعم في حاضرهم وماضيهم ، وكانوا يفخرون بأنهم أولاد
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وإنهم لهذا أبناء الله وأحباؤه ، وما أداهم ذلك الاعتقاد الواهم الباطل إلى ضلال توارثوه ، وفساد فكر تناقلوه ، وكفر بالله ، وقتل للنبيين ، أخذ سبحانه يقص قصص
إبراهيم أبي
إسماعيل وإسحاق وجد
يعقوب وجد النبيين الذين ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن .
يقول سبحانه :
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن و " إذ " ظرف زمان يدل على الماضي متعلق بمحذوف تقديره : اذكر الوقت الذي ابتلى الله فيه
إبراهيم بكلمات فأتمهن ، وذكر الوقت ليس ذكرا للزمن المجرد ، إنما هو ذكر للوقائع في هذا الزمن ، للعبرة بها ، والاتعاظ في مثلها .
وقد ابتدأ
هذه الوقائع بابتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات ، والابتلاء معناه الاختبار من الله تعالى لا عن جهل بما سيكون ، بل لإظهار ما علمه الله تعالى عما
[ ص: 393 ] يكون ، ولا يكون إلا في أمر يعمله العبد بمجاهدة ، وصبر وجهاد نفس ، وقد كان الابتداء بذكر الابتلاء لبيان أن إمامة النبوة لا تكون إلا بمجاهدة ، وجهاد نفس ، وقدم المفعول على الفاعل وهو " الكلمات " التي ابتلي بها ; لأن موضع الحديث هو
إبراهيم ذاته وليست الكلمات ، فكان هو موضع الاهتمام وحده ، وكان المراد كشف حال نفسه القوية الطاهرة ، كما قال تعالى :
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين
والكلمات التي اختبر الله تعالى بها
إبراهيم ، ليست هي ألفاظها وكلماتها وحروفها ، إنما المراد بالكلمات المدلولات والمطلوبات التي تتضمنها من أوامر ونواه ، ووقائع .
وقد اتجه بعض مفسري السلف إلى إحصاء ما تدل عليه هذه الكلمات ، واعتمدوا في ذلك على أقوال الصحابة والتابعين ، ولكن لم يسند فيها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء ; ولذا قال شيخ المفسرين السلفيين
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : لا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . . ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة يجب التسليم له . اهـ .
وإذا كان لم يصح خبر بهذه الكلمات أو بالوقائع التي تدل عليها الألفاظ ، فإننا نتلمسها من القرآن الكريم سجل النبوات وأخبارها .
وأولى واقعة تجلى فيها اختبار الله تعالى
لإبراهيم هو في طلبه معرفة ربه رب الوجود ، ورب المشارق والمغارب ، فقد اختبره الله تعالى بذلك - كما حكى القرآن الكريم - فقد كفر بالأوثان ، ابتداء ; لأنها لا تنفع ولا تضر ، ثم أخذ يتعرف رب الوجود من الوجود والملك واقرأ قوله تعالى :
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما [ ص: 394 ] أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون
* * *
هذا اختبار من الله تعالى عرف به عقل
إبراهيم السليم ، وإدراكه المستقيم .
وقد اختبره الله تعالى وألهمه أن يحطم الأوثان فحطمها ، وجعلها جذاذا ، وألقوه في النار عقابا فقال الله تعالى :
يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم واختبره الله تعالى بكلمة مدلولها أشد ما يكون على النفس البشرية أن يذبح ولده البكر
إسماعيل عليه السلام ، فاستجاب لأمر ربه ، وأخذ يذبح ولده الحبيب استجابة للحبيب ، ولكن فداه الله تعالى بذبح عظيم .
واختبره الله تعالى بالهجرة من بلده إلى
الشام ، وإلى
مكة حيث ولده العزيز
إسماعيل وأمه واختبره الله تعالى بالحنيفية السمحة فحملها وكانت ملته المتبعة ، وما كان من المشركين .
اختبره الله تعالى بكلماته ، أي بمدلولها ، وما ذكرنا بعضها ، فأتمهن أي أتم ما طلب منه فيها ، وكان أمرها عظيما وكان
إبراهيم في إتمامها عظيما .
ولذا كانت مكافأة الله تعالى له أعظم ، فكانت جزاء وفاقا لما أتم به الكلمات ، قال الله تبارك وتعالى لخليله
إبراهيم :
إني جاعلك للناس إماما أي يقتدى به ويتبع ، فالإمام ما يؤتم به ويتبع و " جاعلك " أي مصيرك بإتمام الكلمات ، ووفائك لهذا قدوة طيبة ، وأسوة صالحة ، فمن اتبعك فقد اهتدى ، وأي امرئ عنده طاقة
إبراهيم أبي الأنبياء في القدرة على الاقتداء به ، والاهتداء بهديه والوفاء بكلماته إن ذلك لمقام عظيم .
وإبراهيم كان شفيقا رفيقا محبا لأسرته في غير ظلم ولا اعتداء ، وكان يعطف على الأطفال ويرفق بهم ; ولذلك لم يكتف بأن كان هو الإمام ، بل أراد أن يكون
[ ص: 395 ] إمام من ذريته يعمل بمثل عمله ويقتدى به في الهداية ، فهو يطلب الهداية لذريته لا استئثارا بالمحبة ولكن بالتقوى والهداية ; ولذلك قال مناجيا ربه :
ومن ذريتي أي اجعل يا رب العالمين من ذريتي أئمة صالحين يؤتمون ويقتدى بهم ، فهو يدعو الله تعالى إلى أن تكون ذريته طيبة صالحة يقتدى بهم ، فتكون خلفا له في الإمامة لا بمجرد الانتساب إليه بل لعملهم وتقواهم وإيمانهم بكلمات الله .
ولكن الله تعالى العليم الذي يعلم كل شيء يعلم ما هو كائن ، وما يكون أشار إلى أنه لن تكون ذرية
إبراهيم كلها من الصالحين الذين يؤتم بهم ، بل سيكون منهم الظالمون الذين يظلمون أنفسهم ، وغيرهم بالمعاصي يرتكبونها وبالشر يعملونه ويطلبونه ; ولذا قال تعالى :
قال لا ينال عهدي الظالمين
أي أن ذريته سيكون منهم محسن ، وسيكون منهم ظالم لنفسه ، بالمعاصي ، فالمحسنون ينالهم عهدي ، ويكون منهم أئمة يقتدى بهم ، وأما الظالمون فلن ينالوا إمامة في الدين من الله سبحانه وتعالى ، وقد قال تعالى :
وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين والمعنى أن ذرية
إبراهيم من أحسن منها نال الإمامة ، ومن لم يحسن فهو ظالم لا ينالها ; لأنه يضل الناس ، ولا يهدي أحدا ; ولذلك كان من ذريته أئمة في الدين ، وقد قال تعالى :
ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين
والعهد في اللغة مراعاة الشيء والمحافظة عليه ، ومن ذلك قوله تعالى :
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما والعهد أيضا الأمر الموثق الذي لا يجوز نقضه ، ومن ذلك قوله تعالى :
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وقوله تعالى :
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا
والعهد في هذه الآية هو الإمامة ، وكأنها مأخوذة من العهد بمعنى الرعاية فعهد الله تعالى أن يعهد برعاية الدين والإمامة إلى إمام في الدين ، وإنه لا ينال هذه
[ ص: 396 ] الإمامة ظالم ، ولا يشمل عهد الله بمعنى أن يعهد بالرعاية للظالمين ، أي لا يشمل عهدي ظالما قط .
وقد تكلم بعض المفسرين على ضوء هذه الآية الكريمة على الولاية وإمامة الناس ، فقال بعضهم : إن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز
ولاية الظالم ، ولا يصح أن يكون إماما ، وأنه
إذا ولي ظالم لا تجوز طاعته ، أو على الأقل في ظلمه ، وقال آخرون : تجب طاعته في الطاعة وتجب مخالفته في المعصية ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ويستمر في ولايته ، ويسعى في تغييره .
وإن الاتفاق على أنه لا يجوز
تولية الجائر ، ولكن
أتسقط ولايته بجوره ؟ ، أم تبقى ويسعى في تغييره ;
المعتزلة والشيعة والخوارج قالوا : لا طاعة له ، ويغير بالقوة .
والذي عليه الأكثرون كما قال
القرطبي : أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الخوف بالأمن ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض .
وقد كان الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك يمنع
محاربة الخوارج وأمثالهم إذا خرجوا على الظالمين ويقول : دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما ، ولكن إذا خرجوا على مثل
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز وجب على الناس أن يقاتلوهم ويمنعوهم من طغيانهم .
أنعم الله تعالى على
العرب بإبراهيم عليه السلام إذ جعل
البيت الذي بناه وهو
بيت الله الحرام مثابة للناس وأمنا ، كما قال تعالى في سورة أخرى :
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم
ولقد قال تعالى في ذلك :
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا والمعنى واذكر الوقت الذي جعلنا فيه البيت مثابة للناس ، أي اذكر ذلك الوقت بما فيه من نعم ، وإكرام لأهل التقوى ،
والبيت المراد منه
المسجد الحرام ، وإطلاق كلمة " البيت " وإرادة
البيت الحرام إشعار بفضله ، وإشارة إلى كماله ، وإلى أنه أكمل بيت وضع
[ ص: 397 ] للناس ، لأنه أول بيت للعبادة ، ولأنه بناء
إبراهيم أبي الأنبياء ، ولأنه موضع الأمن من الخوف ، ومثابة الناس ، ولأنه أنشئ مطهرا من الأصنام وما جاء بها
العرب بعد ذلك إلا بعد أن انحرفوا عن ملة
إبراهيم وإن كان -
البيت - شرفهم ومحتدهم الكريم .
والمثابة : أي المرجع الذي يأوون إليه ، والمثابة مصدر ثاب يثوب مثابا ، وثووبا ، أي مأوى يأوون إليه عندما تشتد بأحدهم شديدة ويريد الالتجاء إليه سبحانه .
وقوله تعالى :
وأمنا فهو مصدر موصوف به
البيت فهو أمن للناس يأمنون فيه من القتل أو الاعتداء ، حتى إن الرجل ليلقى فيه قاتل أبيه أو أخيه فلا يمتد إليه ، وحرم فيه القتل والقتال ، وكان محترما في الجملة من
العرب أيام شركهم ، وذلك من هداية الله تعالى لهم بالأخذ بأثارة من بقايا ملة
إبراهيم .
ولقد قال الله تعالى في هذا
البيت ;
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
وقوله تعالى :
مثابة للناس وأمنا فيه إشارة أولا إلى أن
الكعبة مثابة للناس ، يجيئون إليها في حجهم ، كما صرح سبحانه وتعالى ، وفيها قبلتهم إذ يثوبون إليها في الصلاة ويلتفون حولها التفاف الدائرة حول قطبها ، فهم يتجهون إليها من كل أرض الله تعالى .
وإن
باني الكعبة المكرمة إبراهيم عليه السلام هو وابنه
إسماعيل عليه السلام ، وإنه ليبقى الاتصال بين الحاضر والماضي أمر الله تعالى أن يكون
مقام إبراهيم للبناء مصلى لمن جاء بعده من الذين سماهم
إبراهيم المسلمين ، وهم أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ; ولذا قال الله تعالى :
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قرئ بالطلب بكسر الخاء ، وقرئ بالفتح على أنها خبر ، وفي الحالين هي معطوفة على ( جعلنا ) فعلى قراءة فتح الخاء يكون المعنى جعلناه للناس مثابة وأمنا واتخذوا من
مقام إبراهيم مصلى ، وعلى قراءة
[ ص: 398 ] الأمر يكون عطف جملة طلبية على مثلها لأن ( جعلنا ) وإن كانت بلفظ الخبر ولكن معناها الطلب ; لأن المؤدى أنها أمر من الله تعالى بأن يكون
البيت مثابة للناس يرجعون إليه ويأوون ويحيطون به في صلاتهم إحاطة الدائرة بقطبها ، وأمرهم أن يتخذوا من
مقام إبراهيم مصلى .
و ( مقام ) اسم مكان القيام ، أي الشيء الذي قام
إبراهيم عليه يبني
البيت بمعاونة
إسماعيل عليهما السلام ، وقد قالوا إنه
الحجر الذي يعرفه الناس ، في الحج ، واتخاذه مصلى ، أي اتخاذ المكان الذي هو فيه مصلى أي مكانا للصلاة فالمصلى اسم مكان للصلاة .
وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أن
مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه
إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان
إسماعيل يناوله إياها في بناء
البيت وغرقت قدماه فيه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس : رأيت في
المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه .
وإن
اتخاذ مقام إبراهيم مكانا للصلاة إبقاء لذكر
إبراهيم عليه السلام وتنويها بالصلاة في ذاتها وأنها الصلة بين الماضي والحاضر ، وقد كانت بأمر الله تعالى ، وليست بدعا قد أتيها .
وقد تكلم المؤرخون في
الحجر الذي قام عليه
إبراهيم لبناء
الكعبة المكرمة ، وأوثق من قال في ذلك
ابن كثير ، لقد قال في ذلك : "
مقام إبراهيم هو
الحجر الذي يصلى عنده ، وهذا
الحجر هو الذي قام
إبراهيم عليه عند بناء
البيت لما ارتفع الجدار ، أتاه
إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة ، فيضعها بيده لرفع الجدار
[ ص: 399 ] وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول
الكعبة ، وهو واقف عليه وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم بناء جدران
الكعبة " .
ويقول
ابن كثير في موضعه الذي وضعه -
إبراهيم بعد البناء : " وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار
الكعبة قديما ومكانه معروف اليوم إلى مكان الباب مما يلي الحجرة يمين الداخل من البقعة المستقلة هناك ، وكأن
الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء
الكعبة ، وضعه إلى جدار
الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ، ولهذا - والله أعلم - أمر الله تعالى بالصلاة عند الانتهاء من الطواف وناسب أن يكون عند
مقام إبراهيم حيث انتهى بناء
الكعبة " . اهـ
وبهذا تبين أن
مقام إبراهيم هو
الحجر الذي كان يقف عليه
إبراهيم لإتمام البناء ، ولما أتمه وضعه بجوارها ، وكأن الصلاة عقب الطواف عنده حيث انتهى
إبراهيم من البناء وحيث انتهى الطائفون من طوافهم . ولقد جاء في العام السابع عشر من الهجرة سيل شديد نقل الحجر من موضعه فهال ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وركب إلى
مكة وتحرى الموضع الذي كان فيه الحجر فوضعه فيه رضي الله تعالى عنه . لقد أقام البناء
للبيت العتيق نبيان ، وبهذا البناء بنيا مجد
العرب ، وبنيا أمنهما ومكان عبادة الناس ، ومثابتهم التي يستقبلونها فيحيطون بها .
وقد بنياه طاهرا ، مطهرا ، وعهد الله تعالى إلى اللذين بنياه أن يقوما على استمرار طهارته ليتحقق الغرض الأول ، وهو أن يكون مقصدا للحجيج الطائفين والذين يجاورونه عاكفين على العبادة فيه ، فقال تعالى :
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
والعهد في هذا النص السامي ، من عهد إلى هذا برعاية بيته أو أهله في غيبه . فمعنى
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي جعلنا لهما عهدا وفوضناهما برعاية
البيت إنشاء وتطهيرا وقوله تعالى :
أن طهرا بيتي تفسير للعهد المذكور ، وتطهيره
[ ص: 400 ] هو التطهير من الرجس الحسي من الخبائث الحسية ، والتطهير المعنوي بأن يخصص لعبادة الله تعالى وحده فلا يكون مكانا لوثن ، ولا معبدا لغير الله تعالى ، وقد قال تعالى في هذا المعنى السامي :
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود
ويصح على هذا أن نقول إن العهد أن يبنياه مطهرا من كل خبث في بنائه بقلب سليم ، ونفس مخلصة لوجه الله تعالى ، وأن يجعلاه طاهرا معنى وحسا ليكون للقاصدين له من غير
مكة ، والمقيمين حوله ، وسماهم هنا العاكفين مشيرا إلى أن البقاء بجواره مجاورين له قائمين بحقه عبادة ، وعبر في الآية الأخرى بالقائمين أي المستمرين حوله . والطائفون عند أكثر الكاتبين هم القادمون للطواف وحج
بيت الله لمن استطاع إليه سبيلا ، وإنه مع أنه موطن الحجيج الطوافين والمقيمين حوله مجاورين معتكفين هو مسجد الله تعالى تقام فيه الصلاة ، فيكون لهؤلاء الطائفين العاكفين ويكون للمقيمين للصلاة ، وأشار إليهم سبحانه بقوله تعالت كلماته :
والركع السجود هم الراكعون وهو جمع تكسير ، وهم الذين يخضعون لله تعالى راكعين متضرعين متبتلين ، والسجود جمع ساجد ، كقعود جمع قاعد ، ورقود جمع راقد . ويراد الركوع الذي هو ركن الصلاة ، والسجود الذي هو الركن أيضا ، واكتفى بذكرهما دون بقية الأركان من قراءة وقيام وقعود ; لأنهما مظهر الخضوع الكامل ، والتطامن لرب العالمين .
بعد أن بنى
خليل الله أبو الأنبياء
بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه ، أن يجعل ما حول
البيت آمنا ، وقد أقاموا في مكان جدب ; ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات ، فقال تعالى حاكيا دعاءه :
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات وفي هذا دعاء إلى أن يكون ما حول
البيت بلدا آمنا ، وأن يرزقه من الثمرات ، وهذا يشير إلى أنه عند بناء
البيت لم يكن البلد قد تكون ، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونا ; ولذلك ذكر بالتعريف ، فقال تعالى :
رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ ص: 401 ] وقد قال بعض المفسرين إن الدعوة قد تكررت ، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد ، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا ، كما في قوله تعالى :
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون وإنه عند تمام
البيت استجاب الله تعالى لنبيه ، فأخذ الناس يأوون إليه يبنون ويقيمون الخيام ، وإن البلد ينشأ بعد بضع سنين فلما نشأ ،
وإبراهيم ذو ضراعة ، وأواه حليم دعا فقال :
رب اجعل هذا بلدا آمنا وخشي من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله :
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام وإن كثيرين يرون أن طلب
إبراهيم لم يكن إنشاء بلد آمن ، بل كان طلبه فقط أن يكون آمنا ، فالطلب من
إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن ، والإشارة إلى المكان ، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن ، ويكون المطلوب الأمن ، كما تقول مشيرا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا ، ويكون المراد وصفه بالبر ، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه ، فجعله بيتا آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم .
وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر والرزق الإعطاء والتمكين ، ومن هنا للبعضية ، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه ، وكذلك شأن الذين لا يسرفون على أنفسهم ، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض ، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب ، وأعطاهم ثمرات التجارة ، فكانت
مكة موطن الاتجار في
الجزيرة العربية ، وكانت مزار
العرب في الحج ، وقد كان ذلك إجابة
لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال :
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
وإنه في هذه الآية طلب أن تهوي إليهم أفئدة الناس ، فيقدموا على الحج ، وطلب أن يعطيهم من الثمرات ، كما طلب في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها
[ ص: 402 ] السامي ، وطلب الثمرات لا يتنافى مع أنها غير ذات زرع ; لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب ، والفاكهة والرمان ، وغيره مما ينبت في الصحراء .
وخص
خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء ، فقال :
وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر وقوله تعالى :
من آمن بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط ، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة ، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها :
إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي فرد الله تعالى طلبه بقوله :
لا ينال عهدي الظالمين فظن نبي الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة ، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين ; ولذلك قال تعالى ردا لخليله :
قال ومن كفر أي أن الرزق يعم ، البريء والسقيم ، والعادل والظالم ، والمؤمن والكافر ، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى ، فلا تكون إلا لمؤمن عادل : ولقد قال تعالى في سورة الزخرف :
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين
وإن ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عن كفره ، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى :
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ولذا قال سبحانه ، بعد أن نبه خليله
إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر
فأمتعه قليلا أي أعطيه المتعة أمدا قليلا ، وهو ما يكون في الدنيا ، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة ، وعذابها خالد ، ونعيمها مقيم ،
ثم أضطره إلى عذاب النار والعطف بـ ( ثم ) هنا للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب ، وأضطره معناها ألجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا ، كما قال :
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا أي يدفعون دفعا ،
[ ص: 403 ] وكما قال تعالى :
يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر وبذلك ينالهم عذاب الحرمان ، والإلجاء إلى جهنم فاقدي الاختيار ; لأنه جزاء وفاقا لما قدموا ، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ، جنبنا الله عقابه ، وغفر الله لنا ، وكتب ثوابه .
* * *