[ ص: 2573 ] أبو الأنبياء
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
بعد أن بين الله تعالى هداية
إبراهيم -عليه السلام- والتفكير المستقيم الذي هداه إلى ربه، وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم، ليكون هاديا مرشدا، ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهديين من بني إسرائيل، ومن
العرب، وأشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين، فذكر
نوحا، وهو من قبله.
لم يستطع
إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار، كما قال تعالى:
[ ص: 2574 ] ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين
رأى
إبراهيم ذلك، وأنه لا مقام له بينهم، ولا قبل له بتحويلهم، فهاجر واعتزلهم، وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد
الشام، وإلى
مصر، وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن، ولا يصاحبه إلا امرأته ومعه ابن أخيه
لوط عليهما السلام.
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له
إسحاق ويعقوب، ومن جاء من ذريتهما، وأن جعل من ذريته
إسماعيل ويونس ولوطا.
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا إلى الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه وهجرته عنهم:
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا وإن هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم، بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في
[ ص: 2575 ] بلاد المشرق وبعد أن بلغ الكبر، فقد قال تعالى حكاية عنه:
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا، وذكر
نوحا من قبله؛ لأنه أبو الخليقة بعد
آدم -عليه السلام- فهو الأب الثاني.
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية
إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها، وذكر رسالة
نوح من قبل.
وإن الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية
إبراهيم أولا:
إسحاق ويعقوب؛ لأن
إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل، وهو الأب الأول لهم،
ويعقوب الذي يسمى إسرائيل، وينسبون إليه، وجاء الرسل والأنبياء من بعده، وقال تعالى عنهما:
كلا هدينا أي: أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها; لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا، وتلك مكرمة
لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة.
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى: بعد ذكر
نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وإن تلاقت الهدايات كلها؛ لأنها من الله تعالى موحد الشرائع، وهم:
داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر؛ وهو واضح في حياة كل نبي منهم،
فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم بالامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم، وإن الصبر على نعمة
[ ص: 2576 ] يحتاج إلى أفق أوسع من الصبر في الشديدة، فتحري الأحكام، وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب مدرك ونفس هادية مؤمنة.
وكان
داود وسليمان من رجال الحرب الذين لقوا بأسها وشدتها، والصبر في البأس أمر واضح بين،
وأيوب -عليه السلام- صبر على الضراء إذ نادى ربه رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر، حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر: إنه صبر
أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى، مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف -عليه السلام- كان عبدا صابرا، صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة، ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترق، وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في أدق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات،
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن:
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيأ الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوي أن يجلس على عرش
مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد، ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق
[ ص: 2577 ] الرفيق، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام، والعفو الذي تطيب به النفوس، فيقول لإخوته:
قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين، صبرا على أذى
فرعون لقومهما، كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وصبر
موسى كليم الله الذي عاش في بيت
فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله، حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل
فرعون، وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من أرض
فرعون، صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادي، وصبر على كفرهم، وعاود دعوتهم إلى الإيمان، وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها، فقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخذين الضعفاء في أنفسهم، الأقوياء في أبدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر
أيوب، وإن اختلف الشكلان، والنوعان، ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله:
وكذلك نجزي المحسنين أي: كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين، وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.
والمجموعة الثانية: تمتاز بالروحانية والزهادة في الدنيا إلا ما يكون للحلال الصرف وهم
زكريا ويحيى وعيسى، وإلياس، فزكريا هو الذي كان قائما على
المسجد الأقصى، وهو الذي ربى
مريم البتول: وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله [ ص: 2578 ] ويحيى ابنه الذي كان إجابة دعوة أبيه
زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا، فأجاب الله نداءه:
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وعيسى كانت ولادته معجزة، وكانت حياته كلها معجزة، وقد أتى بالبينات، كان ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وينادي الموتى فيخرجون من قبورهم بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وإلياس كان قليل الطلب للحياة وملاذها كإخوانه من أولئك ذوي الأرواح الطاهرة، وإنه حيث كانت المادة كان النزاع في الأرض، وحيث غلبت الروحية كان الصلاح في الأرض، وكان منع الفساد، ولذلك قال تعالى عقب ذكر هذه المجموعة الطاهرة التي امتلأ قلبها بنور الله والروح الزاهدة. وقد وصفهم الله تعالى بوصف الصلاح الكامل؛ لأنه ذهبت عنهم كل أدران المادية الداعية إلى النزاع في الأرض
كل من الصالحين أي: كل واحد من هؤلاء من الصالحين الداخلين في جماعتهم وهم وجهاء في الدنيا والآخرة.
المجموعة الثالثة: هي ذرية
إبراهيم من
العرب، وهم
إسماعيل باني
الكعبة مع أبيه، وابنه البكر، والذبيح الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، وقد قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين،
واليسع ويونس، ولوط وكان ابن أخيه، فكان من ذريته بهذا الاعتبار.
وكان من صلب
إسماعيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا كان لهم فضل فوق كل فضل سبقه; لأنه اجتمع في
محمد -صلى الله عليه وسلم- الصبر والإقدام في موطن الإقدام، والروحانية بما لا يقل عن روحانية
عيسى، ولذلك قال تعالى:
وكلا فضلنا على العالمين أي: أن كل واحد من هؤلاء كان له فضل على العالمين بفضل الله تعالى، والله ذو فضل عظيم.
[ ص: 2579 ] وهناك مجموعة رابعة من الأنبياء لم يذكرهم الله تعالى من ذرية
إبراهيم، ولكنهم من ذوي قرابتهم، أو من جنس الأنبياء، وإن لم يكن لهم من قرابة إلا أخوة الأنبياء، فقد قال تعالى فيهم: