لا تدركه الأبصار لا تحيط الأبصار بكل جوانب عظمته وجلاله، وعندئذ ننتقل من الرؤية البصرية إلى ما تنتجه الرؤية من تأمل وتفكير، ذلك أن الرؤية البصرية رؤية للمحسوس، ثم بعد رؤية المحسوس يكون التفكير فيما توجهه هذه الرؤية، فإذا رأيت منظرا جميلا، فالرؤية تريك هذا المنظر، فتستريح نفسك، وتستروح معاني من الإحساس بالجمال، فإذا علا إدراكك فإنك تفكر في بديع الصنع، وحسن هندسة التناسق، ثم أطياف الألوان، ثم مهارة الصانع، فهذا هو الإدراك بالإبصار، فالإدراك بالإبصار هو المعاني التي تومئ بها الرؤية، ويوجه إليها النظر المستقيم.
وقوله تعالى:
لا تدركه الأبصار هو كناية عن التفكير والعلم الذي ينتج عن البصر، وقد نفى الله تعالى الإدراك، وهو يتضمن نفي الرؤية البصرية ابتداء؛ لأن الرؤية البصرية في الدنيا إنما تكون في مكان متميز متحيز، والله سبحانه وتعالى ليس له مكان، ولا يحده شيء في الوجود، وسع كرسيه السماوات والأرض وهو السميع العليم.
وفوق ذلك لا يمكن للعقل البشري أن يدرك الحقيقة الإلهية; لأنه أعلى وأجل وأعظم من أن تصل إليه المدارك، ونحن ندرك آياته، ولا نعرف كنه ذاته، تبارك الله العلي الحكيم، هذا معنى نفي إدراك الأبصار، وما تؤدي إليه، وما يمكن أن يؤدي إليه مضمون هذا النفي، ثم قال تعالى:
وهو يدرك الأبصار أي: يعلمها علما محيطا، وسع علمه كل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه
[ ص: 2616 ] مثقال ذرة في السماء والأرض، يعرف ما تراه الأعين، وما تدركه، وما تؤدي النظرة من تأملات نفسية، فهو العليم بخواطر النفوس وخلجات الأفئدة، وهو اللطيف الذي يعلم أدق علم، الخبير الذي يعلم دقائق كل شيء.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام في رؤية الله في الآخرة وفي الدنيا، فقال الأكثرون: إن الله تعالى يرى يوم القيامة بكيفية لا نعرفها، يراه الأبرار وقد أخذوا ذلك من ظاهر قوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وإن ذلك من جزاء المتقين، ولا يراه المجرمون أخذا من ظاهر قوله تعالى:
كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ومن ظاهر قوله تعالى:
ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم
وأما في الدنيا فإن الله لا يرى فيها; لأن الرؤية تقتضي التحيز في مكان، والله تعالى منزه عن ذلك، وقد طلب
موسى -عليه السلام- رؤية ربه فقال:
قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك فدلت هذه الآية على أن
الرؤية في الدنيا غير ممكنة. وهنا يثار سؤال:
هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه في المعراج؟ بعض العلماء زعم أنه رآه، ولا يوجد نص قاطع يدل على ذلك، ولكن وردت آثار كثيرة، تدل على نفيه، فقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=657269سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت ربك؟ قال: " إنه نور، فأنى أراه".
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في صحيحه بسنده إلى
nindex.php?page=showalam&ids=17073مسروق عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله تعالى عنها قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=657267كنت متكئا عند nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة فقالت: يا أبا عائشة (كنية nindex.php?page=showalam&ids=17073مسروق) ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية -وكنت متكئا، فجلست- فقلت: يا [ ص: 2617 ] أم المؤمنين أنظريني، ولا تعجليني؛ ألم يقل الله تعالى: ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نـزلة أخرى فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق الله عليها غير هاتين المرتين.. فقالت: أولم تسمع أن الله عز وجل يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير أولم تسمع أن الله عز وجل يقول: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا قالت: ومن زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله
هذا بالنسبة لرؤية الله تعالى في الدنيا، وأما
في الآخرة فالأمر فيها إلى الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.