الكافر الجاحد لا يؤمن بمعجزة
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جاءهم بالمعجزة الكبرى، وهي القرآن، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله ولو مفتراة، وكان يكفي ذلك برهانا على رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم لم يؤمنوا، وأعنتوا في الطلب، وأرادوا آيات أخرى، فطلبوا أن ينزل عليه كتاب في قرطاس من عند الله، ولن يؤمنوا حتى يروه، وطلبوا أن ينزل ملك من السماء مع هذا القرطاس، وهكذا من طرق الإعنات المختلفة، ولم يقدروا القرآن -المعجزة الكبرى- حق قدره، ولم يعدوه آية كافية، وهو أقوى الآيات، وهو المناسب لشريعة خاتم النبيين ومخاطبة الأجيال إلى
[ ص: 2628 ] يوم القيامة، ووعدوا قاسمين بأشد الأيمان وأغلظها أنه لو جاءتهم آية ليؤمنن
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها
جهد الأيمان، روي أنه الحلف. ذلك أن
العرب كانوا يعرفون الله تعالى، ويعلمون أنه الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون معه غيره، فإذا حلف بغير الله لم يكن هذا الحلف أشد الأيمان، فإذا حلفوا بالله كان ذلك أشد الأيمان، وهذا روي في التفسير المأثور.
وإننا نرى أن القسم الذي يعد جهد أيمانهم هو أغلظها وأشدها أيا كانت صيغته وأيا كان المحلوف به، وإن كان القسم بالله في ذاته هو أغلظ الأقسام وأشدها، ولا يمنع أن يكون غيره غليظا شديدا في زعمهم الوثني، وجهد: بمعنى الشاق وهو نائب عن مفعول مطلق محذوف، أو هو مصدر بمعنى اسم الفاعل، ومعناه جاهدين، وهو حال من أقسموا، واللام في (ليؤمنن) لام جواب القسم، ونرى من هذا أنهم يؤكدون أيمانهم إذا جاءتهم آية أي معجزة، وكأنهم لا يعتبرون ما جاءهم من معجزة قاهرة لا يعدونها آية; لأنهم قوم ماديون، ويريدون آية مادية كما طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، أو تفجر الأنهار تفجيرا، ولقد قال الله لنبيه:
قل إنما الآيات عند الله ينزلها بحكمته وإرادته، وهو الذي يقدر مناسبتها ويقدر الهداية بها، وهو منزلها، فالأمر إليه، وفي ذلك إقناع وإنذار.
ولكن أهم صادقون في أيمانهم أنهم إذا جاءت الآية التي تكون على الوصف الذي طلبوه; إنه لا دليل من ماضيهم المتعنت أنهم يؤمنون إن جاءت; لأن كفرهم ليس في نقص الدليل، ولكنه جحود ولا يزيدهم الدليل إلا شدة في الجحود، وعتوا واستكبارا; ولذا قال تعالى:
[ ص: 2629 ] وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون يشعركم أي: يدريكم ويعلمكم علما يكون كالشعور الحسي
أنها إذا جاءت لا يؤمنون وقرئت بفتح همزة (أن)، ويكون المعنى: ما يدريكم أنها إذا جاءت الآية كما يطلبون لا يؤمنون، ويكون هذا إيذانا بأنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبونها؛ لأنهم جاحدون ابتدءوه وهم يصرون عليه فهم لا يؤمنون; لأن الجحود غلب عليهم فغلبت عليهم شقوتهم، وكما قال تعالى:
ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين
لقد سبق إليهم الجحود فاستقر في قلوبهم، فلا يرجى إيمانهم، وهم فوق ذلك بسبب جحودهم، ومسارعتهم إليه في قلق فكري ونفسي دائم، يغيرون تفكيرهم حيثما كان موجب له، ولكنه تغيير في دائرة الجحود.
وقرئ بكسر (إن) ويكون المعنى: وما يشعركم، أي: وما يدريكم، ويكون على معنى الاستفهام: وما يدريكم أنهم صادقون في عزمهم؟ وأنهم مريدون تحقيق أيمانهم الذين جهدوا فيها،