[ ص: 417 ] أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
* * *
ادعى المشركون أنهم على ملة
إبراهيم ، شرفهم وشرف محتدهم ، وادعى اليهود أنهم يسيرون على ملة
إبراهيم وقد غيروا وبدلوا ، بل جرى على ألسنتهم ما يومئ إلى أن
إبراهيم كان يهوديا ، وبذلك يقلبون التاريخ ، فيجعلون أوله آخره ، وصدره عجزه ، وادعى النصارى الذين يعبدون الأوهام أن ثالوثهم دين النبيين أجمعين وافتروا فرية واهمة تبهت العقول ، ولكن الأوهام غلبتهم ، فديانتهم وهم في وهم ، ليس فيها إلا أوهام تكاثفت فاعتنقوها ،
والمسيح منهم براء .
هؤلاء جميعا ، وخصوصا من كانوا ينتحلون نحلة ينسبونها إلى نبي من أبناء
يعقوب عليه السلام كانوا يدعون أنهم على ملة
إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب .
ولقد وجه الخطاب إليهم ، وخصوصا اليهود والنصارى لبيان أنهم ليسوا على ملة
إبراهيم ، وهم على غير الوصية التي وصى بها
إبراهيم بنيه ،
ويعقوب ، فقال تعالى :
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت أم هنا تدل على الاستفهام والإضراب معا فهي تتضمن معنى " بل " و " الهمزة " ، فهي استفهام إنكاري مع التوبيخ
[ ص: 418 ] والإضراب عن إفكهم . والمعنى نضرب صفحا عما تقولون ، ونسألكم :
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت وشهداء جمع شاهد ، كما قال تعالى في الشهادة على الديون :
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله وتكون جمع شهيد ، والمعنى على كل حال أكنتم حاضرين الوقت الماضي الذي حضر فيه
يعقوب الموت ، أي كنتم حاضرين الوقت الذي بدت فيه على
يعقوب أمارات الموت ، فمعنى حضور الموت ظهور أماراته ، ومقدماته ، أي وهو يحتضر ; ولذا كان التعبير بحضر ، فحضور أماراته ومقدماته ، حضوره ; ولذا لم يقل نزل به إذ الأولى في قوله تعالى :
إذ حضر تدل على وقت حلول الموت بمقدماته وأماراته ، وقد ذكر سبحانه وتعالى ( إذ ) مرة أخرى في قوله :
إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي وهما يدلان على وقت واحد قد مضى .
قال
يعقوب أبو بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا ، قال لبنيه :
ما تعبدون من بعدي أي من الذي تعبدونه من بعدي ؟ ، وعبر بما هنا دون من لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان ، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى ; قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ :
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا
ابتدأوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهي تدل على أنهم لا يغيرون ولا يبدلون بل هم مقتدون ، ولذلك قالوا :
إلهك وإله آبائك ولم يقولوا مثلا : نعبد الله وحده .
وإن أباهم
إبراهيم وإسحاق وليس من آبائهم
إسماعيل بل هو عم
يعقوب وليس أباه ولا جده ولكن
العرب تسمي على المجاز العم أبا - كما يسمي العم ابن أخيه ابنه ، كما قال
أبو طالب لقريش عندما طلبوا أن يعطوا
أبا طالب بدلا
لمحمد ابن أخيه أنهد فتى من
قريش ليسلم إليهم
محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم موبخا : آخذ ولدكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ وروى
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
[ ص: 419 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=658642عم الرجل صنو أبيه " هذا وإن عد
إسماعيل عليه السلام في آباء
يعقوب يدل على أن
إسماعيل وإسحاق ، لا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بني إسرائيل .
وقوله تعالى :
إلها واحدا قيل إنها بدل من إلهك ولا مانع من أن تكون النكرة بدلا من المعرفة مثل قوله تعالى :
كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
ويصح أن تكون حالا من إلهك ، أي حال كونه إلها واحدا ، أي نعبده على هذه الحال ، ولعل اعتباره بدلا ; على أنه يكون بدل اشتمال أي أن البدل والمبدل منه شيء واحد .
ونرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب
يعقوب ، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه ، وإشارة ثانية إلى الاتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها
إبراهيم ويعقوب ، وفيها إثبات السلسلة الوحدة في أولاده في
يعقوب عليه السلام ، وإن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى ; ولذا قال سبحانه :
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
ولقد ختم الأبناء المخلصون إجابة أبيهم ، البر الرحيم ، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم :
ونحن له مسلمون أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده ; ولذا قدم قوله : ( له ) على ( مسلمون ) لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى ، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية .
[ ص: 420 ] إن اليهود كانوا كلما ذكرت محمدة
لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم ، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم ، وإن لم يهتدوا بهديهم . فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بأنهم سلالة
إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم ، ولا يسلكون مسلكهم ، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال :
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم ، وهي
قد خلت أي مضت ، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه ، وعليكم معشر
العرب أن تقتدوا
بإبراهيم ، وتأخذوا بوصيته ، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله ، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع ، والنسب وحده لا يغني فتيلا من غير اتباع .
وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم ، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له ، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم . وإن لم تجدوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم .
ولذا قال تعالى :
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم أي لها ما كسبته مكسوبا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه ، ويتضمن قوله :
لها ما كسبت الجزاء لهذا الكسب ، وهو خير
ولكم ما كسبتم إن عملتم مثل عملهم ، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارا تتحلون به ، وهذا حث على الاقتداء ، ودعوة إليه ، فإن تجانفوا لإثم ، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون .
وإنكم لستم مسؤولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم ; لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم ; ولذا قال تعالى :
[ ص: 421 ] ولا تسألون عما كانوا يعملون وكذلك لا يكفيكم عملهم ، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى .
إن ملة
إبراهيم عليه السلام ، وهي التوحيد ، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا ، وهي الحق الذي لا ريب فيه ، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل ، فمن آمن بها فقد اهتدى ، ومن خالفها فقد ضل وغوى ، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه ، وغيروا وبدلوا ، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة
إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق ، وهو الهداية ، كذلك ضلت أفهامهم ، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة ، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون ، ولذا قال تعالى :
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أي قال اليهود : أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم : كونوا هودا ، أي كونوا يهودا تهتدوا ، لأن الهداية تحوطهم ، وهم في قبتها ، وقال النصارى المثلثون الوثنيون : كونوا نصارى تهتدوا ; لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم ، مع أنهم وثنيون ، لا يتبعون نبيا مرسلا ، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة .
قال اليهود ما قالوا ، وقال النصارى المثلثون ما قالوا ، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله :
قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
قل لهم يا رسول الله : إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع ; لأجل البعد عن الباطل ، والاهتداء بهدى الحق - مضربا عن كلامهم صفحا - هو ملة
إبراهيم ، ولذا قال تعالى :
قل بل ملة إبراهيم حنيفا وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم ، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره : بل اتبعوا ملة
إبراهيم حنيفا ، أي مائلا للاستقامة أو مائلا نحو الحق هاديا إليه ، فالحنيفية السمحة أي الحق ، وجنف وحنف معناهما الميل ، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى :
غير متجانف لإثم والحنيف المائل نحو الحق ، والحنيف معناه الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف .
[ ص: 422 ] ويثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة
إبراهيم ، فيقول :
وما كان من المشركين وهذا نفي للشرك عن ملته ، ورد
للعرب المشركين عن تبعيته ، وإن كانوا من سلالته .
ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين ; لأنه من تبليغ رسالة ربه ، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها ، وإن ذلك الرد كقوله تعالى :
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
* * *