وقال تعالى مستنكرا من حرم بعض اللباس من غير نص والطيبات من الرزق، فقال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
ولذا قال تعالى:
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه
(ما) هنا للاستفهام الإنكاري، وهو بمعنى التوبيخ للمشركين إذ حرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله من بعض الأنعام كالسائبة والبحيرة والحام; وذلك لأنه
[ ص: 2646 ] إنكار للواقع، وإنكار الواقع توبيخ، والمعنى أي حجة لكم في ألا تأكلوا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، لا دليل، فأنتم تحرمون على أنفسكم ما أحل الله لكم، وتنسبون التحريم لله سبحانه وتعالى وذلك افتراء على الله تعالى، وكذب عليه، كما قال تعالى في هذا الشأن إذ حرموا ما حرموا مدعين أنه من عند الله:
قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه أي: تحرمون على أنفسكم ما أباحه الله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم، أي: بينه، فإنه حرام، وقد ذكر تفصيل ما حرم الله تعالى، فيما يأتي من سورة الأنعام فقال تعالى:
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم
وقوله تعالى:
وقد فصل لكم ما حرم عليكم فيه قراءتان متواترتان، قراءة بالبناء للفاعل بفتح الفاء والحاء، ويكون المعنى: تحرمون عليكم بعض الأنعام التي ذكر عليها اسم الله عند ذبحها، وأنتم تعلمون ما بينه الله من محرمات أباحها للضرورة، ولم يكن المنع فيها إلا في حال الاختيار، ولا منع فيها في حال الاضطرار.
ويكون التوبيخ على أنهم علموا تحريم الله وأن ما عداه حلال، ومع ذلك حرموا ما حرموا من تلقاء أنفسهم. والمعنى على قراءة البناء للمجهول بضم الفاء والحاء يكون المعنى: تحرمون ما تحرمون بغيا، وقد علم بالتفصيل ما حرم عليكم،
[ ص: 2647 ] أي: إن المحرم كان معلوما من الله، وهو تحريم أيضا بمقتضى الفطرة السليمة; لأنه لا تستبينه النفوس السليمة، ولا الأذواق التي تعاف الرجس القذر.
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم المعنى: إن كثيرا من الناس تسيطر عليهم الأوهام، حتى تزين لهم الضلال، فيتوهمون أنه حق، وما هو إلا الباطل والهوى هو الذي يخرج الوهم، ويحكمون من غير علم.
وقوله:
ليضلون فيها قراءتان إحداهما: بفتح الياء والمعنى أن كثيرا من الناس يضلون في ذات أنفسهم بأهوائهم التي تسيطر عليهم بغير علم، بل بوهم توهموه، وحكموا على مقتضاه من غير علم أوتوه، وينسبون ذلك إلى الله، والله تعالى بريء منه; لأنه مفترى عليه.
وهناك قراة أخرى بضم الياء، ويكون المعنى: إن كثيرا من الناس يضلون غيرهم تبعا لأهوائهم التي تجعلهم يتوهمون تحريما في أشياء بغير ما حرم الله تعالى، وينسبون ذلك لله تعالت قدرته بغير علم علموه من قبل الله سبحانه وتعالى.
وإن القراءتين متواترتان كل منهما قرآن كريم، فكل واحدة قرآن، ويكون بين القراءتين أنهم يضلون بأهوائهم في ذات أنفسهم، حتى استمكن الضلال منهم فأضلوا غيرهم، فهم يضلون ويضلون بغير علم.
وهذا فيه تنبيه للمؤمنين، بأن يجتهدوا في عدم اتباع المشركين الذين ضلوا وأضلوا:
إن ربك هو أعلم بالمعتدين
وإن هؤلاء اعتدوا على الله فكذبوا عليه، واعتدوا على الناس فأضلوهم واعتدوا بتحريم ما لم يحرم عليهم، فكما أن الاعتداء يكون بتحليل ما حرم الله تعالى، فالاعتداء أيضا يكون بتحريم ما أحل الله.
[ ص: 2648 ] وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أن الله تعالى يعلم علما، ليس فوقه علم بمن يعتدون، وعبر سبحانه وتعالى بالوصف:
بالمعتدين على أن الاعتداء صار وصفا لهم، إذ اعتدوا فأشركوا، واعتدوا فحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله تعالى من الطيبات.
وقد أكد سبحانه علمه باعتدائهم بذكر أنه رب كل شيء، والرب يعلم بمن خلق وربى، وأكده بضمير الفصل: "هو" وهو يدل على أنه وحده العليم بالمعتدين، وأكده بـ: "إن"، وهذا فيه إنذار شديد للمعتدين.