صفحة جزء
وأما الأول وهو ترهل الأجسام وكسلهم، فقد عالجه سبحانه بأن حرم عليهم ما يؤدي إلى ترهل الأجسام من شحوم ولحوم تربي الدهن في الأجسام، وتثقل عليهم حركاتهم. ولذا قال سبحانه: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر حرم الله تعالى على اليهود كل ذي ظفر من الأنعام. وذو الظفر: -كما قال ابن جرير رضي الله تعالى عنه- كالبهائم التي لم تكن مشقوقة الأصابع كالإبل، والطير والأنعام والإوز والبط، والحيتان.

ويلاحظ أن هذه المحرمات تمتاز بكثرة الشحم، فالإبل لها سنام كله شحم، والإوز والبط هي شحوم قليل لحمها، وذو الظفر كما ترى قد فسرت به، وكل حيوان لم تنفرج أطراف أرجلها، وكان التحريم لهذا المعنى الذي ذكرناه، وفطما لنفوسهم، وفطم النفوس يعطيها قوة إرادة، ويجعل للعقل سيطرة على أفعالهم.

[ ص: 2716 ] ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما

هذا هو القسم الثاني مما حرمه الله تعالى، وقد نص على الشحوم مما يدل على سبب التحريم في الماضي فوق أنه يقال: إن أكل لحوم الإبل يقسي القلب، وقلوبهم قاسية.

وهنا نرى علاج الله تعالى لأجسامهم مع ملاحظة الرحمة بنفوسهم، فقد حرم سبحانه وتعالى الشحوم لما تؤدي إليه من ترهل وضخامة مع ضعف قوته وعزيمته، ومع قسوة النفس، وضعف الإحساس، ولكنه استثنى ما لا يستطيعون عليه صبرا; استثنى أولا ما حملت ظهور البقر والغنم لطيب طعامها، ولأنها ليست شحوما كثيرة، ولا تؤدي إلى الترهل الكثير، واستثنى أيضا سبحانه: أو الحوايا أو ما اختلط بعظم (الحوايا) جمع مفرده حاوية أو حوي، وهو ما تحوى واجتمع في البطن، وتشمل المعدة والأمعاء، ومواضع اللبن وأبيح ما حملت من شحم، كما أبيحت هي، وذلك لصعوبة فصله وإخراجه، وكان ذلك تيسيرا وتخفيفا في موضع التحريم، وتسهيلا للاستجابة إن كانوا طائعين.

وأن ذلك التحريم كان علاجا لأجسامهم، ولكسلهم، وفطما لنفوسهم، وتزكية لأرواحهم، وإرهافا لمداركهم وأجسامهم؛ ولذا قال تعالى: ذلك جزيناهم ببغيهم البغي هو الظلم، والظلم يشمل ظلمهم لأنفسهم بانطلاقهم في أكل ما يشتهون، وتسمن به أجسامهم، ويشمل بغيهم على غيرهم بالاعتداء والفحشاء، ويشمل ارتكابهم المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ودلت الإشارة فيه إلى ما حرمه تعالى عليهم وفطم به نفوسهم الشرهة، وهذا كقوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وإن هذا التحريم كان تطهيرا لنفوسهم وتقوية لأجسامهم، وجزاء دنيويا على ما اقترفوا من طغيان.

[ ص: 2717 ] وإن الإسلام أحل لهم الطيبات كلها، وقد قال الله تعالى ذلك عند بشارته بالنبي الأمي، فقال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم

والله تعالى ولي النعم.

وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: وإنا لصادقون الصدق معنى جامع لكل المعاني العالية، والصدق هنا هو الإخبار بالحق الذي لا مرية فيه، وكيف نشك في خبر حكاه الله رب العالمين، ويشمل العدل في الجزاء الذي جازى به بني إسرائيل على طغيانهم، وعتوهم ويشمل صدق الدواء الذي عالج ترهلهم، وإفسادهم لأجسامهم بشهواتهم، وإفراطهم إلى غير حد محدود، وقد أكد الله سبحانه وتعالى صدقه في خبره وعدالته وعلاجه لأدواء جسمهم ونفوسهم بمؤكدات ثلاثة، أولها: الجملة الاسمية. وثانيها: (إن) المؤكدة، وثالثها: اللام، والله تعالى هو العلي الكبير.

التالي السابق


الخدمات العلمية