الرسالة المحمدية حجة على المشركين
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون [ ص: 2744 ] بين الله تعالى صراطه المستقيم، وهو صراط القرآن العظيم، وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه وصايا الأديان كلها، ومن بعد ذلك أشار سبحانه وتعالى إلى شريعة
موسى مبينة مع شريعة القرآن ليعلم
العرب أن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وما نزل عليه من قرآن هو تكملة للرسالة الإلهية، فقال تعالى:
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة
(ثم) هنا عاطفة على الصراط المستقيم، وما سبقه من وصايا، وفهم من التعبير بـ: (ثم) هنا أنها لمجرد العطف على التراخي من غير ترتيب; لأن ما يتعلق بموسى عليه السلام سابق على شريعة
محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الحافظ
ابن كثير ذلك، وقال: إنه ترق في الخبر من الحاضر إلى الماضي، واستشهد بقول الشاعر:
قلن لمن ساد ثم ساد أبوه ثم من قبل ذاك قد ساد جده
ونحن نرى أن (ثم) هنا للترتيب والتراخي أيضا; لأن الترتيب والتراخي كما يكون في المستقبل يكون في الماضي، فهو قد ذكر الأب، ثم ذكر الجد، وذلك تراخ في الزمن الماضي. وليس ذلك غريبا في استعمال: (ثم)، فهو ترق في الذكر من الحاضر إلى الماضي، وفي الماضي ذلك التراخي، وإن ذلك يتلاقى مع قول
أبي السعود: إن (ثم) تجيء للتراخي في الإخبار مع الترتيب، كأن تقول: قابلتك اليوم، ثم بالأمس، ثم قبل ذلك، فإن استعمال (ثم) هنا في موضعها.
ويكون معنى قوله تعالى:
ثم آتينا موسى الكتاب إننا وصينا بالصراط المستقيم الذي هو صراط الله تعالى، وهو القرآن الكريم، ثم من قبل ذلك آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا.... أي أن هذه الوصايا العشر، قد آتيناها من قبل
موسى، كما قال تعالى:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وكما قال تعالى:
قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا [ ص: 2745 ] وكما قال تعالى: " ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة " .
وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا
وفي الجملة: إن الله تعالى يقرر بهذا أن الشرائع السماوية في الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ظاهره وباطنه وأن حديثها في الوحي والتنزيل واحد.
وقال تعالى:
تماما على الذي أحسن أي: تتميما وتكميلا لنعمة الهداية فلا شيء أتم من الهداية والتوفيق إلى الصراط وبيان الحق، ولأنه الكمال والتمام للخير جعله الله تفصيلا لكل شيء من شئون الهداية والتوجيه، فهو كتاب قد آتاه الله تعالى
موسى فيه كمال الخير وبيانه، ووصفه الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين:
أحدهما: أنه هدى؛ فهو يهدي إلى الحق ويرشد الذي أحسن التلقي، وكان قلبه مفتوحا للحق ويدخل إليه، ويصل إليه، ولم ينطمس قلبه وبصيرته، ولم يكن على بصره غشاوة.
وثانيهما: أنه رحمة، ففيه تفصيل الخير، وبيان الوصول إلى الحق في كل مسالك الحياة، والهداية ذاتها رحمة، والشريعة التي جاءت بها التوراة رحمة بمن بعث
موسى عليه السلام لهم، وإن هذه الهداية والرحمة، الأخذ بها هو طريق لرجاء الإيمان باليوم الآخر؛ ولذا قال سبحانه:
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون
أي أن الله تعالى آتى
موسى هذا الكتاب تتميما وتكميلا للذي أحسن التلقي، وشرح صدره لقبول الحق، وجعله الله تفصيلا للحق وبيانا له، ونورا وهدى ورحمة- كان رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم، فقوله تعالى:
لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون الرجاء فيها من العبيد لا من الله تعالى.
وهنا يسأل سائل: لماذا كان الرجاء في الإيمان باليوم الآخر وبلقاء الله تعالى، ولم يذكر سبحانه وتعالى غيره مع أن الإيمان له عناصر غير مجرد الإيمان بلقاء الله تعالى; ونقول في الإجابة عن ذلك: إن الإيمان بلقاء الله تعالى هو
[ ص: 2746 ] الجامع لكل معاني الإيمان، فمن آمن باليوم الآخر لا يصعب عليه الإيمان بأي جزء من أجزاء الإيمان من بعد، ولذلك كان النكير من
العرب والاستغراب في الإيمان بالبعث والنشور.
وفي قوله تعالى:
لعلهم بلقاء ربهم ذكر لقاء الله الذي خلقهم وربهم كناية عما يكون في اليوم الآخر; لأن لقاء الله تعالى هو أعظم ما يكون في يوم الدين.