[ ص: 506 ] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
* * *
بين الله سبحانه وتعالى أننا فيما أباحه الله لنا لا نتبع خطوات الذي يغوينا بتحريم ما أحل لنا ، وذكر حال المشركين في اعتقاداتهم ثم بين بعد ذلك ما أحله وما حرمه ، فقال تعالى :
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم وكان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خطوات الشيطان ، أما الآن فالخطاب للمؤمنين خاصة ، وهم لا يتبعون خطوات الشيطان إنما يتبعون شرع الرحمن .
الأمر هنا للإباحة ، والإباحة بالجزء ، أي لنا أن نتخير من الطيبات ، وعلينا أن نتناول ما نحب لا ما لا نحب ، من غير أن نحرم على أنفسنا شيئا كما تلونا قوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وبالنسبة لمجموعة الأوقات فالأكل من الطيبات فرض ، فهو وإن كان مباحا بالجزء مطلوب بالكل ،
ليس لأحد أن يترك الأكل من الطيبات فإن ذلك يكون حراما ، ويؤدي إلى الهلاك كما ذكرنا في ماضي قولنا .
والطيبات هي ما تستطيبه النفوس ، ويكون حلالا ، والأكل منه مطلوب لتقوى الأجسام ولتقوى العقول والنفوس في ذاتها ، ولتقوى للجهاد في سبيله وبشرط أن تكون حلالا ، وحرم الله الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنزير والميتة أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسحت ، وأكل مال الناس بالباطل . وإن من
[ ص: 507 ] أعظم القربات بعد تقوى الله ، طلب الطيبات الحلال . وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=661923إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" .
ولقد أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بالأكل من الطيبات بالأمر بالشكر ; لأن هذه الإباحة للطيبات نعمة ، والنعمة توجب الشكر من المنعم ، الذي أباح ومكن ، والشكر يكون بترك المعاصي ولزوم الطاعات والتقوى والتقرب إليه سبحانه وتعالى ، وطلب رضوانه ، ويقول سبحانه :
لئن شكرتم لأزيدنكم ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=664780الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " .
وإن هذه المباحات نعم الله تعالى في هذه الدنيا يسأل عن حقها وعن شكرها ، فقد قال تعالى :
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم وإن الشكر هو الطاعات الكاملة ، والعمل الصالح ، وإن ذلك شريعة الرسائل الإلهية كما قال تعالى :
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم
وقوله تعالى :
كلوا من طيبات ما رزقناكم أضيفت الطيبات ، وهي إضافة تشير إلى المصدر ، وهو إنعام المنعم ; لأن الطيبات مما رزق الله تعالى ، ومما تمكن عباده منه ، فكان هنا نعمتان أنعم الله تعالى بهما ، وهما : نعمة الرزق والعطاء ، ونعمة الإباحة للطيبات ، وكان الشكر على النعمتين واجبا .
ولذا قال تعالى :
واشكروا لله أي اشكروا الله ، وقد بينا أن " شكر " تتعدى باللام ، وهو الأفصح ، وتتعدى بنفسها ، وإن الشكر ملازم للعبادة أو هو منها ، أو
[ ص: 508 ] هو هي ، ولذا قال تعالى :
إن كنتم إياه تعبدون أي إن كنتم تعبدونه وحدي من غير إشراك غير ، وتقديم الضمير على الفعل للإشارة إلى اختصاصه تعالى بالعبادة وحده ، اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك وراضين في السراء والضراء .
بعد أن ذكر الله ما أحله من طيبات بين ما حرمه من خبائث سواء أكانت هذه الخبائث حسية أم كانت معنوية ، فقال تعالى :
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
حرم الله تعالى ثلاثة أشياء من الخبائث الحسية ، وهي
الميتة والدم ولحم الخنزير ، ومن الخبائث المعنوية ما أهل به لغير الله ، أي ما ذبح لصنم ونحو ذلك .
والميتة هي التي ماتت حتف أنفها من غير ذبح شرعي ، وتشمل النطيحة والمتردية ، ولذا قال في الخبائث المحرمة في سورة المائدة :
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون
وإنه يدخل في الميتة كل ما مات من غير أن يسال دمه ولو بسبب من العباد أو السبع ، فيدخل في الميتة المنخنقة التي ماتت بالخنق من غير ذبح يسيل دمها ، والموقوذة التي رميت حتى ماتت ، والنطيحة التي ماتت بنطح ولم يسل لها دم ، والمتردية وهي التي تردت في حفرة أو بئر فماتت بهذا التردي ، ولم تذبح وما أكل السبع بعضه ، ولم يذبح فإنه أيضا يكون محرما ، وحرم الاستقسام بالأزلام وهي أقداح الميسر كما حرم الذبح على النصب ، وحرمت هذه الأشياء لا لخبث في ذاتها ولكن لما اقترن بذبحها وهو النصب ، كما حرم الاستقسام بالأزلام فهي في ذاتها طيبة حسيا ، ولكن لازمها خبث معنوي وهو ما يقترن بها من ميسر ، والقرآن الكريم قد حصر التحريم في هذه الأشياء المذكورة فقال تعالى :
إنما حرم عليكم الميتة وإنما أداة من أدوات القصر ، أي حرمت هذه الأشياء من النعم التي هي البقر
[ ص: 509 ] والإبل والغنم وغيرها مما يشبهها آكلة العشب كالغزال والأوعال ، أما سباع البهائم كالأسد والذئب وغيرها فهي محرمة بذاتها ، لأن لحمها لا يؤكل وتعافه النفوس المستقيمة ، فالحصر في التحريم ، إنما هو بالنسبة للنعم وما يشبهها من آكلة العشب ، والمحرمات هي الميتة ويدخل فيها كما سبق من القول المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا أن يذكى بأن يبقى بعد أكله حيا ، فيذكى والتذكية إسالة الدم .
والميتة يبقى فيها الدم ، فبمضي الزمن يفسد أجزاء جسمها وتتعفن ببقائه فيها فيفسد لحمها وتسارع إليها الجراثيم المفسدة ، فتكون خبيثة وتتحول من لحم طيب إلى لحم خبيث ، ويدخل في ذلك الموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة والدم ، والمراد به الدم المسفوح ، أي السائل ، وليس المتجمد بأصل تكوينه وإن كان التكوين من الدم وهو الكبد والطحال ، والدم المسفوح يسارع إليه الفساد وهو ثقيل الهضم وهو يفسد الجسم والنفس ، وإنما قيد الدم بالمسفوح ، لأنه صرح في آية الأنعام بأن المحرم هو الدم المسفوح فقال تعالى :
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به
ومن المقررات أن المطلق يحمل على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب ، فيجمل الدم المذكور في الآية التي نتكلم في معناها على المقيد في آية الأنعام ، والدم يسارع إليه الفساد وأكله يربي القسوة وهو ثقيل الهضم .
ولحم الخنزير ذكر الله تعالى في القرآن أنه رجس أي قذر يحتوي على كل ما يضر البنية الإنسانية ، وقد ثبت بالتجربة أنه أثقل طعام على المعدة ، والمعدة بيت الداء ، وثبت أنه يحوي من الديدان ما يضر الجسم ، وأنه يحدث فقد الشهوة ، ويوجد أعراضا عصبية ، ويظن كثيرون أنه مورد من موارد داء السرطان العضال . وما أهل لغير الله تعالى به ، والإهلال رفع الصوت بذكر الله تعالى عند الذبح ، والإهلال لغير الله تعالى بأن يذكر عند الذبح أنه لصنم أو وثن أو نار أو نحو ذلك ،
[ ص: 510 ] ويدخل في ذلك
ما ذبح على النصب التي كانت تقام للأوثان وتذبح الذبائح عليها .
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك عند الاختيار ، وأما عند الاضطرار فإنها يرفع عنها الإثم ; ولذا قال تعالى :
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه أي من كان في حال ضرورة ، بحيث تتعرض الحياة للهلاك إذا لم يأكل شيئا من هذه المحرمات ، فإنه لا إثم عليه إذا أكل ، ويكون واجبا عليه أن يأكل إن لم يجد غيرها ; لأن ضرر الموت أشد من ضرر الأكل ، والضرر القليل يتحمل في سبيل دفع الضرر الكبير ، ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الضرورة لمن سأله عن ذلك ، فقال : "
أن يأتي الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله " ، ولقد قال تعالى :
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
ولقد قيد الله تعالى رفع الإثم ، فقال تعالت كلماته :
غير باغ ولا عاد أي غير طالب لها تبتغي إشباع رغبتك ، كأن يكون في عطش شديد ولم يجد إلا خمرا ، فيشربها مبتغيا لها لا يقصد دفع الضرورة ولكن يرغب فيها ، وكمن يكون في حال ضرورة فيكون بين يديه الميتة والخنزير فيبتغي الخنزير اشتهاء له ورغبة فيه ، ولا عاد أي غير متجاوز حد الضرورة ، والضرورة تدفع بأقل قدر فلا يتجاوزه ، فيتعدى ما رفع الله تعالى الإثم عنه .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير أنهما قالا في معنى باغ وعاد ، غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي الخارج على السلطان العادل وقاطع الطريق ، وبهذا أخذ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أحد قوليه فمن
كان مضطرا للطعام ولا يجد [ ص: 511 ] إلا بعض هذه المحرمات وكان خارجا في معصية فإنه لا يترخص له في أكل واحد من هذه المحرمات ; لأن وقوع الضرورة بسبب معصية ، والمعصية لا تحل المحرم .
nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد ، والرأي الثاني عند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن الرخصة قائمة وسببها ليس هو المعصية أو غير المعصية ، وإنما سببها الاضطرار والخشية من الهلاك والمعصية في قتل النفس أشد من المعصية في الخروج على الأحكام ; ولأن الجهة منفكة ; فرفع الإثم لدفع الجوع والظلم في العصيان فلا خلط بينهما ، ومن المقررات أن الظالم في معصية لا يحرم من حقوقه في ناحية أخرى ، وإلا كان ظلما والظالم لا يظلم ، ولكن يقتص منه في موضع ظلمه ، هذا وإن الرخصة نتيجتها أن يرفع الإثم لا أن تباح الميتة وأخواتها ، ولكن قرروا أنه في حال الضرورة هذا يكون الأكل مطلوبا طلبا حتميا بحيث يأثم إن لم يأكل ، لأن عدم الأخذ بالرخصة قتل للنفس والله تعالى يقول :
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
ولقد ختم الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى :
إن الله غفور رحيم
هذا النص السامي فيه تسجيل لرحمة الله تعالى ، ولغفرانه في الدنيا والآخرة ما يرتكب إن كان بقصد حفظ النفس من التلف ، وكان من غفرانه أن رفع الإثم وسببه قائم عن
المضطر إلى أكل المحرمات ، وكان من رحمته أن أباح هذه الطيبات ، وإن حرم الخبائث ، فتحريم الخبائث لأضرارها ، وإباحة الطيبات لنفعها من رحمته سبحانه ، إذ إن الشريعة الغراء قامت على جلب ما هو نافع ودفع ما هو ضار ، وكان من رحمته جلت قدرته أن رفع الإثم عند الاضطرار .
وقبل أن ننتقل إلى آياته البينات نقرر أمرين . أولهما : ما قرره بعض العلماء ذوي النظر الثاقب أن الجوع الشديد يجعل الجسم يستطيع تناول هذه الخبائث الضارة إذ الجوع يذهب بأضرارها ، أو لا يجعلها تؤثر بالأذى في الجسم ما دام لا يتعدى حد الضرورة ، فإن تعداها كان الضرر المؤكد من هذه الخبائث . الثاني : إن هذه المحرمات إنما هي في حيوانات البر والنعم كما قررنا ، أما
صيد البحر فإنه حلال كما قال تعالى :
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما جعل الله طعامنا حلالا طيبا ، وهنيئا مريئا .
* * *