[ ص: 512 ] كتمان الحق
إن الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد
* * *
بعد أن بين الله تعالى في كتابه الحكيم ما يحل وما يحرم ، وذكر أن الشيطان يجيء بوسوسته فيما يحل فيحرمه ، وفيما يحرم فيبيحه فهو يجعل المشركين يحرمون على أنفسهم بعض ما أحل ، ويحملهم على أن يستبيحوا الزنى والقذف والخمر والقتل والغصب ، بعد ذلك بين سبحانه أن ما جاء في كتاب الله تعالى يجب أن يبين ، وما جاء في الكتب السابقة يجب ألا يكتم من بشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحلال وحرام في هذه الكتب ، وأن من يكتم الذي أنزله الله سبحانه لغرض من أغراض أو هوى من هوى الأنفس أو رجاء رشوة أو سحت من المال ، إنما يبيع الحق بثمن بخس مهما يكن مقداره ; ولذا قال تعالت كلماته :
إن الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون الكلام في كل من يكتمون ما أنزل الله في الكتاب سواء أكانوا مؤمنين لا يبلغون الدعوة إلى الله ويبينون ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام التي يجب إعلانها وبيانها للناس ، أم كانوا من اليهود أو النصارى الذين يعلمون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يجيء به من أحكام ويكتمونها ، وقد قال تعالى في ذلك :
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في [ ص: 513 ] التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
وكان من المناسب ذكر كتمانهم ، والقرآن الكريم يبين الطيبات التي أحلها ، والخبائث التي حرمها ، والأغلال التي رفعها ، وقد كتموا أمر
محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته .
وقوله تعالى :
ويشترون به ثمنا معناه يقدمونه في نظير قليل ، وعبر سبحانه بقوله تعالى :
ويشترون به ثمنا قليلا لأن المشتري طالب لمقابل المبيع ، فهم يتركونها طالبين ثمنها راغبين ، وهو مهما يكن مقداره قليل ، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، والثمن هو استعلاء واستكبار عن الاتباع ، وإنكار وجحود ، وعرض من أعراض الدنيا وقد بين الله تعالى سوء فعلتهم في الدنيا ، وعذابهم في الآخرة ، فقال تعالى :
أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم
الإشارة إلى الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب الحق ، وتركوا الواجب في نظير قليل بالنسبة لما تركوه فهو زهيد مهما يكن مقداره بجوار الحق الذي باعوه ، فقد باعوا غاليا بما لا يكافئه مهما يكن قدره ، الإشارة إلى هؤلاء الذين اتصفوا بذلك ، والإشارة إلى الموصوف بصفة يبين أن سبب الحكم هو هذه الصفة .
وقد حكم الله تعالى عليهم بأربعة أحكام : أولها أنهم ما يأكلون من الثمن الذي أخذوه إلا النار تلهب بطونهم ، وقوله
ما يأكلون في بطونهم إلا النار مجاز فيه عبر عن حالهم بالمآل الذين يئولون إليه ، فعبر سبحانه عن حالهم في الثمن الذي أخذوه شرها ، طمعا وإيثارا للباطل ، وتركا للحق بأنهم أكلوا نارا ، نزلت في بطونهم وألهبتها ومزقت لحومهم ، واختار التعبير بكون النار في بطونهم ; لأن المال الباطل يطلب لأجل شهوة البطن وملذاتها والتعبير عن الجزء وإرادة الكل إذ المراد أن النار تعمهم ، وتشمل كل أجزائهم ، ولكن عبر بالجزء ; لأن ذلك الجزء له مزيد من الاختصاص ; لأن شهوتهم وشرههم هو الذي جعلهم يختارون ذلك الثمن الحقير وإن كان كبيرا فإن الذي تركوه من الحق أكبر وأعظم وهو الحق الذي كتموه .
[ ص: 514 ] والعقاب الثاني : أنهم ينالهم غضب الله تعالى ، وغضب الله الواحد القهار فيه إيلام لأهل الضمائر وإنذار شديد لأهل الشر ، لأنه غضب المقتص الجبار الذي لا يفلت منه أثيم ، ولا تنفع عنده شفاعة الشافعين ، ولا يغني أمامه سبحانه وتعالى شيء في الوجود مهما يكن ومهما تكن صلته ،
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو
والعقاب الثالث : أن الله تعالى لا يزكيهم أي لا يطهرهم من ذنوبهم فإنهم في كون الجزاء ، لا يخفف عنهم ولا يرجعون ، يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ، ولكن لا يعودون ، ولا يخرجون من النار التي تحيط بهم .
والعقاب الرابع : أن لهم عذابا أليما أي مؤلما ، نتيجة لغضب الله تعالى ، وعبر سبحانه وتعالى عن غضبه عليهم بأنه لا يكلمهم ، وكأنه يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون .
وإن الآية كما يقولون نزلت في اليهود أو النصارى كذلك ، فإن اللفظ أعم وأشمل فهو يشمل اليهود الذين كتموا الحق غرورا واستعلاء وكبرياء وطلبا للدنيا وما فيها من سيطرة وسلطة ويشمل كل من يكتم الحق من أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشمل الذين تقاصروا عن الدعوة إلى الإسلام ، وهم عليها قادرون ، وتركوها استرخاء ، وتقاصرا في الهمم وتركا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ويشمل الوصف الذين لا يذكرون ما أحل الله تعالى وما حرم ، تهاونا وكسلا ، أو لينالوا مأربا من مآرب الدنيا ، وهو الثمن البخس الذي تركوا الواجب لأجله .
ويشمل الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تخاذلا عن الحق ، ورضا بالباطل ، ويشمل الذين يمالئون الحكام ، ويخطون على هواهم ، ويقررون من الأحكام ما يخالف النقل والعقل ، كأولئك الذين يستبيحون الربا ، والذين يدعون إلى قتل النسل ، لإرضاء الحاكمين وتقربا وازدلافا إليهم ، ويشمل الذين يفتون الناس على حسب أهوائهم بأجر معلوم ، أو رجاء معونة عند الحكام الذين ليس للدين حريجة في قلوبهم ، وكل أولئك نراه في عصرنا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[ ص: 515 ] وإن أولئك الذين كتموا الحق الذي أنزله تعالى لغرض أو لمال أو لجاه ، أو لرشوة وسحت أو لمنصب يريدونه أو يرجونه ، هؤلاء تركوا الهداية وطلبوا الضلالة ; ولذا قال تعالى مشيرا إليهم :
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة الإشارة في الأولى إشارة للذين اتصفوا بكتمان الحق وقت الحاجة إلى بيانه ، وأن ذلك الوصف هو سبب الحكم الذي تقرر عليهم ، وهو أنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، أي تركوا الحق ، وهو المبيع الثمين لأنه هدى الله تعالى وهو الطريق ، وهو الإعلام بالحق المبين تركوه ، وباعوه بثمن حقير في ذاته بالنسبة لمقابله ، فهو الضلالة ، في مقابل الهداية ، قد تركوا الطريق المستقيم وهو الهداية التي منحهم الله تعالى بحكم الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، تركوا ذلك الطريق المستقيم إلى متعرجات الشيطان فضلوا في صحراء هذا الوجود ضلالا بعيدا .
وكما استبدلوا بالهداية الضلالة استبدلوا أيضا العذاب بالمغفرة ، أي سلكوا الطريق الموصل إلى العذاب وتركوا الطريق الموصل إلى مغفرة الله تعالى ، وقد عبر الله تعالى بالعذاب ، والظاهر أنه أراد سببه والطريق الموصل إليه ، إشارة إلى أنه موصل إليه لا محالة ، والمغفرة هي الثواب والنعيم المقيم الذي أعده الله تعالى للمهتدين ، وعبر عن الثواب بالمغفرة ، لأن المغفرة دليل الرضا أولا ، وللإشارة إلى أن من يعمل صالحا يغفر الله له ما عساه يكون من سيئات ; لأن الحسنات يذهبن السيئات ثانيا ، ولأن من ينال غفران الله تعالى من المقربين .
وقد أكد الله تعالى دوام عذابهم بقوله تعالت كلماته :
فما أصبرهم على النار أي أنهم يأخذون في أسباب الجحيم ، ودخول النار والبقاء ، ويقال في مثل من يكون في حالهم ممن يسيرون سيرهم ، ما أصبرهم على النار وهو من قبيل التهكم كما يقول القائلون لمن يرتكب أسباب العقوبة من حد أو تعزير : ما أصبرك على السياط تكوي ظهرك كيا ، لأنه يتخذ أسبابها ، وقد يقال إن الصبر بمعناه اللغوي وهو الحبس كقوله تعالى :
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون [ ص: 516 ] وجهه ويكون المعنى ما أطول وأدوم حبسهم على النار يصلونها .
روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي أنه قال : أخبرني قاضي
اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما فحلف فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله أي ما أجرأك عليه . والمعنى على ذلك : ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها . . اللهم قنا عذاب النار ، وألهمنا الصبر على النطق بالحق إنك أنت الرحمن الرحيم .
وما كان ذلك الوجوب إعلاما بإعلان الحق في الكتاب الكريم والعقاب على الكتمان إلا لأن الكتاب أنزل بالحق ، والذين يختلفون فيه اختاروا المشاقة على الإيمان ; ولذلك قال تعالى :
ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق أي أن الله تعالى نزل القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة بالحق الثابت الذي لا مرية فيه ، ولا شك أن من يكتمه ولا يبينه للناس ليستضيئوا بنوره ، وليهتدوا بهديه - يرتكب إثما عظيما ، يستحق عليه عقابا أليما ، وهو الطريق المستقيم ، ولا ينبغي لأحد أن يخالفه أو يختلف في شأنه وصدقه ; ولذا قال عز من قائل :
وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد فمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ويترك ما يدعو إليه ، أو يجعله عضين مفرقا يفهمه غير مستقيم في فهمه بل يفهمه متناقضا على حسب هواه ، لا على مقتضى نسقه الحكيم ، من يفعل ذلك فشأنه في شقاق بحيث يتخذ كل واحد شقة من القول ، ويكون كل شق بعيدا عن الآخر ، لا يتلاقون أبدا فهم في خلاف وكل حزب بما لديهم فرحون .
* * *