سورة آل عمران
51 -
قوله تعالى : إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد أول السورة ، وفي آخرها :
إنك لا تخلف الميعاد ، فعدل من الخطاب إلى لفظ الغيبة في أول السورة ، واستمر على الخطاب في آخرها ؛ لأن ما في أول السورة لا يتصل بالكلام الأول كاتصال ما في آخرها ، فإن اتصال قوله تعالى :
إن الله لا يخلف الميعاد بقوله :
إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه معنوي ، واتصال قوله :
إنك لا تخلف الميعاد بقوله :
ربنا وآتنا ما وعدتنا لفظي ومعنوي جميعا لتقدم لفظ الوعد ، ( ولا يجوز أن يكون الأول استئنافا ) ، والآخر من تمام الكلام .
52 -
قوله : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله ، كان القياس : فأخذناهم ، ولكن لما عدل في الآية الأولى إلى قوله :
إن الله لا يخلف الميعاد عدل في هذه الآية أيضا ؛ لتكون الآيات على منهج واحد .
53 -
قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، ثم كرر في هذه الآية فقال :
لا إله إلا هو ؛ لأن الأول جرى مجرى الشهادة ، وأعاده ليجري الثاني مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود .
[ ص: 89 ] 54 -
قوله : ويحذركم الله نفسه ، كرره مرتين لأنه وعيد عطف عليه وعيد آخر في الآية الأولى ، فإن قوله :
وإلى الله المصير معناه : مصيركم إلى الله ، والعذاب معد لديه فاستدركه في الآية الثانية بوعد ، وهو قوله تعالى :
والله رءوف بالعباد ، والرأفة أشد من الرحمة . وقيل : من رأفته تحذيره .
55 -
قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر . قدم في هذه السورة ذكر الكبر ، وأخر ذكر المرأة . وقال في سورة مريم :
وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا فقدم ذكر المرأة ؛ لأن في مريم قد تقدم ذكر الكبر في قوله :
وهن العظم مني ، وتأخر ذكر المرأة في قوله :
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ، ثم أعاد ذكرها فأخر ذكر الكبر ليوافق
عتيا ما بعده من الآيات وهي :
سويا ، وعشيا ، و
صبيا .
56 -
قوله : قالت رب أنى يكون لي ولد . وفي مريم :
قالت أنى يكون لي غلام ، لأن في هذه السورة تقدم ذكر
المسيح ، وهو ولدها ، وفي مريم تقدم ذكر الغلام ، حيث قال :
لأهب لك غلاما زكيا .
57 -
قوله : فأنفخ فيه . وفي المائدة :
فتنفخ فيها . قيل : الضمير في هذه السورة يعود إلى الطير . وقيل :
[ ص: 90 ] إلى الطين . وقيل : إلى المهيإ . وقيل : إلى الكاف فإنه في معنى مثل ، وفي المائدة يعود إلى الهيئة . وهذا جواب التذكير والتأنيث ، لا جواب التخصيص ، وإنما الكلام وقع في التخصيص ، وهل يجوز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أم لا ؟ فالجواب أن يقال : في هذه السورة إخبار قبل الفعل فوحده ، وفي المائدة خطاب من الله له يوم القيامة وقد تقدم من
عيسى - عليه السلام - الفعل مرات ، والطير صالح للواحد وصالح للجميع .
58 -
قوله : بإذن الله . ذكر في هذه الآية مرتين . وقال في المائدة :
بإذني أربع مرات ؛ لأن ما في هذه السورة كلام
عيسى ، فما يتصور أن يكون من فعل البشر أضافه إلى نفسه ، وهو : الخلق الذي معناه التقدير ، والنفخ الذي هو : إخراج الريح من الفم . وما يتصور إضافته إلى الله تعالى ( أضافه إليه ) وهو قوله :
فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص بما يكون في طوق البشر ، فإن الأكمه عند بعض المفسرين : الأعمش ، وعند بعضهم : الأعشى ، وعند بعضهم : الذي يولد أعمى . وإحياء الموتى من فعل الله فأضافه إليه .
وما في المائدة من كلام الله - سبحانه وتعالى - فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر ، ولأن فعل العبد مخلوق لله تعالى .
وقيل :
بإذن الله يعود إلى الأفعال الثلاثة ، وكذلك
[ ص: 91 ] الثاني يعود إلى الثلاثة الأخرى .
59 -
قوله : إن الله ربي وربكم ، وكذلك في مريم :
ربي وربكم . وفي الزخرف في هذه القصة :
إن الله هو ربي وربكم بزيادة " هو " .
قال
الشيخ : إذا قلت : زيد هو قائم ، فيحتمل أن يكون تقديره : وعمر قائم . فإذا قلت : زيد هو القائم ، خصصت القيام به ، فهو كذلك في الآية ، وهذا مثاله ، لأن ( هو ) يذكر في مثل هذه المواضع إعلاما أن المبتدأ مقصور على هذا الخبر ، وهذا الخبر مقصور عليه دون غيره .
والذي في آل عمران وقع بعد عشر آيات من قصتها ، وليس كذلك ما في الزخرف ، فإنه ابتداء كلام منه ، فحسن التأكيد بقوله : " هو " ؛ ليصير المبتدأ مقصورا على الخبر المذكور في الآية ، وهو إثبات الربوبية ، ونفي الأبوة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
60 -
قوله : بأنا مسلمون في هذه السورة ، وفي المائدة :
بأننا ؛ لأن ما في المائدة أول كلام الحواريين ، فجاء على الأصل ، وما في هذه السورة تكرار لكلامهم ، فجاز فيه التخفيف ؛ لأن التخفيف فرع ، والتكرار فرع ، والفرع بالفرع أولى .
61 -
قوله : الحق من ربك فلا تكن في هذه السورة ، وفي البقرة :
فلا تكونن ؛ لأن ما في هذه السورة جاء على الأصل ولم يكن فيها ما أوجب إدخال نون التوكيد في الكلمة ، بخلاف سورة البقرة ، فإن في أول القصة :
فلنولينك قبلة ترضاها بنون التوكيد ، فأوجب الازدواج إدخال النون في الكلمة ، فيصير
[ ص: 92 ] التقدير : فلنولينك قبلة ترضاها ،
فلا تكونن من الممترين . والخطاب في الآيتين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد به غيره .
62 -
قوله : قل إن الهدى هدى الله في هذه السورة ، وفي البقرة :
قل إن هدى الله هو الهدى ؛ لأن الهدى في هذه السورة هو الدين ، وقد تقدم في قوله :
لمن تبع دينكم ، وهدى الله : الإسلام ، فكأنه قال بعد قولهم :
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . قل :
إن الدين عند الله الإسلام كما سبق في أول السورة .
والذي في البقرة معناه : القبلة ؛ لأن الآية نزلت في تحويل القبلة ، وتقديره : قل : إن قبلة الله هي
الكعبة .
63 -
قوله : من آمن تبغونها عوجا ليس ههنا ( به ) ولا واو العطف ، وفي الأعراف :
من آمن به وتبغونها بزيادة ( به ) وواو العطف ؛ لأن القياس : " آمن به " كما في الأعراف ، لكنها حذفت في هذه السورة موافقة لقوله :
ومن كفر . فإن القياس أيضا : " كفر به " ، وقوله :
تبغونها عوجا ههنا حال ، والواو لا تزداد مع الفعل إذا وقع حالا ، نحو قوله :
ولا تمنن تستكثر ، و
دابة الأرض تأكل منسأته ، وغير ذلك . وفي الأعراف عطف على الحال ، والحال قوله :
توعدون ، و
تصدون عطف عليه ، وكذلك
تبغونها عوجا .
64 -
قوله : وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم . ههنا بإثبات " لكم " ، وتأخير " به " ، وحذف " إن الله " . وفي الأنفال " 10 " بحذف " لكم " ، وتقديم " به " ، وإثبات
إن الله ؛ لأن البشرى هنا للمخاطبين ، فبين وقال :
لكم . وفي الأنفال قد تقدم
[ ص: 93 ] لكم في قوله :
فاستجاب لكم ، فاكتفى بذلك .
وقدم
قلوبكم هنا ، وأخر " به " ازدواجا بين المخاطبين فقال :
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به .
وقدم " به " في الأنفال ازدواجا بين الغائبين فقال :
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم .
وحذف " إن الله " ههنا ؛ لأن ما في الأنفال قصة
بدر ، وهي سابقة على ما في هذه السورة ، فإنها في قصة
أحد ، وأخبر هناك بأن الله عزيز حكيم ، وجعله في هذه السورة صفة ؛ لأن الخبر قد سبق .
65 -
قوله : ونعم أجر العاملين ، بزيادة الواو ؛ لأن الاتصال بما قبلها أكثر من غيرها ، وتقديره : ونعم أجر العاملين المغفرة والجنات والخلود .
66 -
قوله : رسولا من أنفسهم بزيادة الأنفس ، وفي غيرها :
رسولا منكم ؛ لأنه سبحانه من على المؤمنين
[ ص: 94 ] به فجعله من أنفسهم ليكون موجب المنة أظهر ، وكذلك قوله :
لقد جاءكم رسول من أنفسكم لما وصفه بقوله :
عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم جعله من أنفسهم ليكون موجب الإجابة والإيمان أظهر وأبين .
67 -
قوله : جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ههنا بباء واحدة ، إلا في قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=16447ابن عامر ، وفي فاطر :
بالبينات وبالزبر وبالكتاب بثلاث باءات ، لأنه في هذه السورة وقع في كلام مبني على الاختصار ، وهو إقامة لفظ الماضي في الشرط مقام لفظ المستقبل ، ولفظ الماضي أخف ، وبني الفعل للمجهول فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل ، وهو قوله :
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ، لذلك حذفت الباءات ليوافق الأول في الاختصار ، بخلاف ما في فاطر ، فإن الشرط فيه بلفظ المستقبل ، والفاعل مذكور مع الفعل ، وهو قوله :
وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم . ثم ذكر بعدها الباءات ليكون كله على نسق واحد .
68 -
قوله : ثم مأواهم جهنم ههنا ، وفي غيرها : " ومأواهم جهنم " " 9 : 73 ، 95 و 66 : 9 " ؛ لأن ما قبلها في هذه السورة :
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل أي : ( ذلك ) متاع ( في الدنيا ) قليل ، والقليل يدل على تراخ وإن صغر وقل ، وثم للتراخي فكان طبقا له ، والله تعالى أعلم .