[ ص: 205 ] فصل واعلم أن قوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله ليس فيه أمر بالتوجه إلى
بيت المقدس ولا إلى غيره ، بل هو دال على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها .
فأما التوجه إلى بيت المقدس فاختلف العلماء ، هل كان برأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده ، أو كان عن وحي ؟ ، فروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج أنه كان عن أمر الله تعالى لقوله عز وجل:
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول .
وأخبرنا
المبارك بن علي ، قال: أبنا
أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=13859إبراهيم ابن عمر البرمكي ، قال: حدثنا
محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا
أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا
محمد بن الحسين ، قال: أبنا
كثير بن يحيى ، قال: أبنا أبي ، قال: أبنا
أبو بكر الهدبي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: " قالت اليهود: إن
محمدا مخالف لنا في كل شيء فلو تابعنا على قبلتنا ، أو على شيء تابعناه ، فظن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا منهم جد ، وعلم الله منهم الكذب ، وأنهم لا يفعلون ، فأراد الله أن يبين ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 206 ] فقال: إذا قدمت
المدينة فصل قبل
بيت المقدس ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت اليهود: قد تابعنا على قبلتنا ويوشك أن يتابعنا على ديننا ، فأنزل الله عز وجل:
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، فقد علمنا أنهم لا يفعلون ، ولكن أردنا أن نبين ذلك لك " .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية ،
والربيع ، بل كان برأيه واجتهاده ، وقال قتادة: " كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاءوا ، بقوله تعالى:
ولله المشرق والمغرب ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال بيت المقدس ، وقال
ابن زيد :
كانوا ينحون أن يصلوا إلى أي قبلة شاءوا ، لأن المشارق والمغارب لله ، وأنزل الله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله ، يعني بيت المقدس ، فصلوا إليه .
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضعة عشر شهرا ، فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتى هديناه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ورفع طرفه إلى السماء ، فأنزل الله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء " [ ص: 207 ] أخبرنا
المبارك بن علي ، قال: أبنا
أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=13859أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا
محمد بن إسماعيل الوراق ، قال: بنا
أبو بكر بن أبي داود ، قال: بنا
محمد بن أيوب ، قال: بنا
أحمد بن عبد الرحمن ، قال: أبنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، قال: حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية " أن نبي الله ، خير بين أن يوجه حيث يشاء ، فاختار
بيت المقدس ، لكي يتألف أهل الكتاب ، ثم وجهه الله إلى
البيت الحرام ، واختلف العلماء في سبب اختياره
بيت المقدس على قولين: أحدهما: أن
العرب لما كانت تحج ولم تألف
بيت المقدس ، أحب الله امتحانهم بغير ما ألفوه ، ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، كما قال تعالى:
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج .
والثاني: أنه اختاره ليتألف أهل الكتاب ، قاله:
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبو جعفر بن جرير الطبري ،
[ ص: 208 ] قلت: فإذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار
بيت المقدس ، فقد وجب استقباله بالسنة ، ثم نسخ ذلك بالقرآن .
والتحقيق في هذه الآية أنها أخبرت أن الإنسان أين تولى بوجهه فثم وجه الله ، فيحتاج مدعي نسخها ، أن يقول: فيها إضمار ، تقديره:
فولوا وجوهكم في الصلاة أين شئتم ، ثم نسخ ذلك المقدر .
وفي هذا بعد ، والصحيح إحكامها .
[ ص: 209 ] [ ص: 210 ] ذكر الآية الثامنة: قوله تعالى:
ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة للكفار ، ثم نسخ بآية السيف ، ولا أرى هذا القول صحيحا ، لأربعة أوجه: أحدها: أن معنى الآية: أتخاصموننا في دين الله ، وكانوا يقولون: نحن أولى بالله منكم ، لأننا أبناء الله وأحباؤه ، ومنا كانت الأنبياء وهو ربنا وربكم أي: نحن كلنا في حكم العبودية سواء ، فكيف يكونون أحق به ؟
ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم أي لا اختصاص لأحد به إلا من جهة الطاعة والعمل ، وإنما يجازى كل منا بعمله ، ولا تنفع الدعاوى وعلى هذا البيان لا وجه للنسخ .
والثاني: أنه خبر خارج مخرج الوعيد والتهديد .
والثالث: أنا قد علمنا أعمال أهل الكتاب وعليها أقررناهم .
والرابع: أن المنسوخ ما لا يبقى له حكم ، وحكم هذا الكلام لا يتغير ، فإن كل عامل له جزاء عمله ، فلو ورد الأمر بقتالهم لم يبطل تعلق أعمالهم بهم .
[ ص: 211 ] ذكر الآية التاسعة: قوله تعالى:
إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية: قد ذكر عن بعض المفسرين ، أنه قال: معنى الآية فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، قال: ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه والسعي بينهما من ملة
إبراهيم .
قلت: وهذا قول مرذول: لا يصلح الالتفات إليه ، لأنه يوجب إضمارا في الآية ، ولا يحتاج إليه وإن كان قد قرئ به ، فإنه مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ،
وأنس ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين ،
nindex.php?page=showalam&ids=17188وميمون بن مهران ، أنهم قرءوا: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، ولهذه القراءة وجهان:
[ ص: 212 ] أحدهما: أن تكون دالة على أن السعي بينهما لا يجب .
والثاني: أن يكون " لا " صلة ، كقوله: ما منعك أن لا تسجد ، فيكون معناه معنى القراءة المشهورة ، وقد ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد إلى أن السعي من أركان الحج ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وأصحابه: هو واجب يجزي عنه الدم .
والصحيح في سبب نزول هذه الآية: ما أخبرنا به
أبو بكر بن حبيب ، قال: أبنا
علي بن الفضل ، قال: أبنا
محمد بن عبد الصمد ، قال: أبنا
ابن حموية ، قال: أبنا
إبراهيم بن خريم، قال: أبنا
عبد الحميد ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=16505عبد الوهاب بن عطاء ، عن
داود ، عن
عامر ، قال: كان على
الصفا وثن يدعى أساف ، ووثن على المروة يدعى نائلة ، وكان أهل
[ ص: 213 ] الجاهلية يسعون بينهما ويمسحون الوثنين ، فلما جاء الإسلام أمسك المسلمون عن السعي بينهما فنزلت هذه الآية .
قلت: فقد بان بهذا أن المسلمين إنما امتنعوا عن الطواف لأجل الصنمين ، فرفع الله عز وجل الجناح عمن طاف بينهما ، لأنه إنما يقصد تعظيم الله تعالى بطوافه دون الأصنام .
[ ص: 214 ] ذكر الآية العاشرة: قوله تعالى:
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى إلى قوله:
اللاعنون قد زعم قوم من القراء الذين قل حظهم من علم العربية والفقه أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها ، ولو كان لهم نصيب من ذلك ، لعلموا أن الاستثناء ليس بنسخ ، وإنما هو إخراج بعض ما شمله اللفظ ، وينكشف هذا من وجهين: أحدهما: أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر ، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه .
والثاني: أن الجمل إذا دخلها الاستثناء يثبت أن المستثنى لم يكن مرادا دخوله في الجملة الباقية، وما لا يكون مرادا باللفظ الأول لا يدخل عليه النسخ .
[ ص: 215 ] ذكر الآية الحادية عشرة: قوله تعالى:
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية ، ذهب جماعة من مفسري القرآن إلى أن أول هذه الآية منسوخ بقوله تعالى:
فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، وزعم بعضهم أنه إنما نسخ منها حكم الميتة والدم ، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=70699أحلت لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد ، والكبد والطحال " وكلا القولين باطل ، لأن الله تعالى استثنى من التحريم حال الضرورة والنبي صلى الله عليه وسلم استثنى بالتخصيص ما ذكره في الحديث ولا وجه للنسخ بحال .
[ ص: 216 ] ذكر الآية الثانية عشرة: قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ذهب بعض المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ ، لأنه لما قال:
الحر بالحر اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر ، وكذا لما قال:
والأنثى بالأنثى اقتضى ، أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب ، وذلك منسوخ بقوله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وإلى هذا أشار
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فيما رواه
عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال: نسختها الآية التي في المائدة
أن النفس بالنفس وإلى نحو هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=17132ومقاتل .
" أخبرنا
المبارك بن علي ، قال: أبنا
أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=13859أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=15477أبو بكر محمد بن إسماعيل إذنا قال: أبنا
أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا
يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=17320يحيى بن [ ص: 217 ] عبد الله بن بكير ، قال: حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16457عبد الله بن لهيعة ، عن
عطاء بن دينار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير " أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، وكان أحد الحيين يتطاولون على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا أن لا نرضى حتى نقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزل فيهم:
الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فرضوا بذلك فصارت آية
الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى منسوخة نسخها
النفس بالنفس " قلت: وهذا القول ليس بشيء لوجهين: أحدهما: أنه إنما ذكر في آية المائدة ما كتبه على أهل التوراة ، وذلك لا يلزمنا ، وإنما نقول في إحدى الروايتين عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه ، وخطابنا بعد خطابهم قد ثبت النسخ ، فتلك الآية أولى أن تكون منسوخة بهذه من هذه بتلك .
والثاني: أن دليل الخطاب عند الفقهاء حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه ، وقد ثبت بلفظ الآية أن الحر يوازي الحر ، فلأن يوازي العبد
[ ص: 218 ] أولى ، ثم إن أول الآية يعم ، وهو قوله:
كتب عليكم القصاص وإنما الآية نزلت فيمن كان يقتل حرا بعبد ، وذكرا بأنثى ، فأمروا بالنظر في التكافؤ .
" أخبرنا
أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب ، قال: أبنا
علي بن الفضل ، قال: أبنا
محمد بن عبد الصمد ، قال: أبنا
عبد الله بن أحمد السرخسي ، قال: أبنا
إبراهيم بن خريم ، قال: أبنا
عبد الحميد ، قال: أبنا
يونس ، عن
شيبان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة "
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي منهم إذا كان فيهم عدد وعدة ، فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين ، قالوا: لن نقتل به إلا حرا تعززا وتفضلا على غيرهم في أنفسهم ، وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة ، قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا ، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، وينهاهم عن البغي ، ثم أنزل في سورة المائدة:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، إلى قوله:
والجروح قصاص "
[ ص: 219 ] ذكر الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى:
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين اختلف المفسرون في هذه الوصية ، هل كانت واجبة أم لا على قولين: أحدهما: أنها كانت ندبا لا واجبة ، وهذا مذهب جماعة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي واستدلوا بقوله بالمعروف ، قالوا: المعروف لا يقتضي الإيجاب وبقوله:
على المتقين والواجب لا يختص به المتقون .
[ ص: 220 ] والثاني: أنها كانت فرضا ثم نسخت ، وهو قول جمهور المفسرين ، واستدلوا بقوله: كتب ، وهو بمعنى فرض، كقوله تعالى:
كتب عليكم الصيام وقد نص
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في رواية
الفضل بن زياد ، على نسخ هذه الآية ، فقال: الوصية للوالدين منسوخة ، وأجاب أرباب هذا القول أهل القول الأول ، فقالوا: ذكر المعروف لا يمنع الوجوب ، لأن المعروف بمعنى العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير ، كقوله تعالى:
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة ، فذكر المعروف في الوصية لا يمنع وجوبها بل يؤكده ، وكذلك تخصيص الأمر بالمتقين دليل على توكيده ، لأنها إذا وجبت على المتقين كان وجوبها على غيرهم أولى ، وإنما خصهم بالذكر ، لأن فعل ذلك من تقوى الله تعالى ، والتقوى لازمة لجميع الخلق .