ذكر الآية السادسة عشرة: قوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة على قولين:
[ ص: 247 ] أحدهما: أنها منسوخة ثم اختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين: أحدهما: أنه أولها ، وهو قوله:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال إنما يباح في حق من قاتل من الكفار ، فأما من لم يقاتل فإنه لا يقاتل ولا يقتل .
ثم اختلف هؤلاء في ناسخ ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أنه قوله تعالى:
وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة .
والثاني: أنه قوله تعالى:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم .
والثالث:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .
والرابع:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .
[ ص: 248 ] قلت: وهذا القول الذي قالوا وإنما أخذوه من دليل الخطاب ، إنما هو حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه ، وقد عارضه ما هو أقوى منه كآية السيف وغيرها ، مما يقتضي إطلاق قتل الكفار ، قاتلوا أو لم يقاتلوا ، فأما الآية الأولى التي زعموا أنها ناسخة فإنها تشبه المنسوخة وتوافقها في حكمها ، لأنها إنما تضمنت قتال من قاتل .
وأما الآية الثانية ، فإنها إنما تضمنت قتال الذين أمروا بقتالهم ، لأن قوله:
واقتلوهم عطف على المأمور بقتالهم .
وأما الآية الثالثة: فإنها تتضمن قتال أهل الكتاب ، والآية التي ادعي نسخها مطلقة في كل من يقاتل ، وأما الرابعة ، تصلح ناسخة لو وجدت ما تنسخه وليس هاهنا إلا دليل الخطاب ، وليس بحجة هاهنا على ما بينا .
القول الثاني: أن المنسوخ منها قوله:
ولا تعتدوا للمفسرين في معنى هذا الاعتداء خمسة أقوال: أحدها: " لا تعتدوا بقتل النساء والولدان " ، رواه
ابن أبي طلحة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=16406وابن أبي نجيح ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد .
الثاني: بقتال من لم يقاتلكم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير ،
وابن زيد وهؤلاء إن عنوا من لم يقاتل ، لأنه لم يعد نفسه للقتال كالنساء
[ ص: 249 ] والولدان ، والرهبان فالآية محكمة ، لأن هذا الحكم ثابت ، وإن عنوا من لم يقاتل من الرجال المستعدين للقتال توجه النسخ .
والثالث أن الاعتداء إتيان ما نهى الله عنه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن .
والرابع أنه ابتداء المشركين بالقتال في الشهر الحرام في الحرم قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل .
والخامس: لا تعتدوا بقتال من واعدكم وعاقدكم ، قاله
ابن قتيبة ، والظاهر إحكام الآية كلها ويبعد ادعاء النسخ فيها .
[ ص: 250 ] [ ص: 251 ] ذكر الآية السابعة عشرة: قوله تعالى:
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أو محكمة على قولين: أحدهما: أنها منسوخة واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فأمر بقتلهم في الحل والحرم قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة .
" أخبرنا
إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا
أبو الفضل البقال ، قال: أبنا
ابن بشران ، قال: أبنا
إسحاق الكاذي ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=16408عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا
عبد الوهاب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17258همام ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة "
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فأمر أن لا يبدءوا بقتال ، ثم قال:
قل قتال فيه كبير ، ثم نسخت الآيتان في براءة ، فقال:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : وحدثنا
حسين ، عن
شيبان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة "
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ، قال: كانوا لا يقاتلون فيه حتى يقاتلوهم ، ثم نسخ ذلك
[ ص: 252 ] ، فقال:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، فأمر الله بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال .
والثاني: قوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس ،
وابن زيد .
والثالث: قوله تعالى:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم قاله
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل .
والقول الثاني: أنها محكمة وأنه لا يجوز أن يقاتل أحد في
المسجد الحرام حتى يقاتل ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد والمحققين ، ويدل عليه ما روي في الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال:
[ ص: 253 ] في
مكة "
nindex.php?page=hadith&LINKID=656372أنها لا تحل لأحد من بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار " ، وفي الصحيحين من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=65973إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، أنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل إلا ساعة من نهار " .
وقد ادعى بعض من لا علم له أن هذه الآية نسخت بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس رضي الله عنه: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=651715أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر ، فأمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة " وهذا باطل من وجهين:
[ ص: 254 ] أحدهما: أن القرآن لا ينسخ إلا القرآن ، ولو أجزنا نسخه بالسنة لاحتجنا إلى أن نعتبر في نقل ذلك الناسخ ما اعتبرنا في نقل المنسوخ ، وطريق الرواية لا يثبت ثبوت القرآن .
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه إنما خص بالإباحة في ساعة من نهار ، والتخصيص ليس بنسخ ، لأن النسخ ما رفع الحكم على الدوام ، كما كان ثبوت حكم المنسوخ على الدوام ، فالحديث دال على التخصيص لا على النسخ ، ثم إنما يكون النسخ مع تضاد اجتماع الناسخ والمنسوخ ، وقد أمكن الجمع بين ما ادعوه ناسخا ومنسوخا ، وصح العمل بهما فيكون قوله:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة في غير الحرم بدليل قوله:
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه وكذلك قوله:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي: في غير الحرم بدليل قوله عقب ذلك:
وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو جاز قتلهم في الحرم لم يحتج إلى ذكر الإخراج ، فقد بان مما أوضحنا إحكام الآية وانتفى النسخ عنها .
[ ص: 255 ] ذكر الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى:
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم اختلف المفسرون في المراد بهذا الانتهاء على قولين: أحدهما: أنه الانتهاء عن الكفر .
والثاني: عن قتال المسلمين لا عن الكفر ، فعلى القول الأول الآية محكمة ، والثاني يختلف في المعنى فمن المفسرين ، من يقول:
فإن الله غفور رحيم إذ لم يأمركم بقتالهم في الحرم بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها فلا يكون نسخ أيضا .
ومنهم من يقول: المعنى اعفوا عنهم وارحموهم ، فيكون لفظ الآية لفظ خبر ومعناه: الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم ، وهذا منسوخ بآية السيف .
[ ص: 256 ] ذكر الآية التاسعة عشرة: قوله تعالى:
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخ أم لا على قولين: أحدهما: أن فيها منسوخا واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين: أحدهما: أنه قوله:
الشهر الحرام بالشهر الحرام قالوا: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة فصده المشركون عن أداء عمرته فقضاها في السنة الثانية في ذي القعدة فاقتضى هذا ، أن من فاته أداء ما وجب عليه بالإحرام الذي عقده في الأشهر الحرم أن يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشهر الحرام ، ثم نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أي وقت شاء ، أما في مثل ذلك الشهر أو غيره ، قال شيخنا
علي بن عبيد الله : وممن حكي ذلك عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء .
قلت: وهذا القول لا يعرف عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء ، ولا يشترط أحد من الفقهاء المشهورين ، على من منع من عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشهر .
والثاني: أنه قوله:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
[ ص: 257 ] ثم اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا نزل
بمكة ، والمسلمون قليل ليس لهم سلطان يقهرون به المشركين ، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة وأعز الله سلطانه ، نسخ ما كان تقدم من ذلك ، رواه
علي بن أبي طلحة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما .
والثاني أنه كان في أول الأمر إذا اعتدي على الإنسان فله أن يقتص لنفسه بنفسه من غير مرافعة إلى سلطان المسلمين ، ثم نسخ ذلك بوجوب الرجوع إلى السلطان في إقامة الحدود والقصاص ، قال شيخنا: وممن حكي ذلك عنه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما .
قلت: وهذا لا يثبت عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ولا يعرف له صحة ، فإن الناس ما زالوا يرجعون إلى رؤسائهم ، وسلاطينهم في الجاهلية والإسلام ، إلا
[ ص: 258 ] أنه لو أن إنسانا استوفى حق نفسه من خصيمه من غير سلطان أجزأ ذلك ، وهل يجوز له ذلك ؟ فيه روايتان عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد .
والثالث: أن معنى الآية فمن اعتدى عليكم في الشهر الحرام ، فاعتدوا عليه فيه ثم نسخ ذلك ، وهذا مذكور عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد ، ولا يثبت ، ولو ثبت كان مردودا ، بأن دفع الاعتداء جائز في جميع الأزمنة عند جميع العلماء ، وهذا حكم غير منسوخ ، والصحيح في هذه الآية أنها محكمة غير
[ ص: 259 ] منسوخة ، فأما أولها فإن المشركين لما منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول
مكة في شهر حرام اقتصر لنبيه عليه السلام بإدخاله
مكة في شهر حرام .
" أخبرنا
عبد الوهاب بن المبارك ، قال: أبنا
أحمد بن الحسن بن خيرون ،
وأبو ظاهر الباقلاوي ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=13254أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا
nindex.php?page=showalam&ids=13456أحمد بن كامل القاضي ، قال: أبنا
محمد بن سعد العوفي ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي
nindex.php?page=showalam&ids=14836الحسين بن حسن بن عطية ، قال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: "
كان المشركون حبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، عن البيت ففخروا عليه بذلك ، فرجعه الله في ذي القعدة ، فأدخله البيت الحرام فاقتص له منهم ، فأما قوله:
فمن اعتدى عليكم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : كان المشركون قد عاهدوه يوم الحديبية أن يخلوا له
مكة ولأصحابه العام المقبل ثلاثة أيام ، فلما جاء العام الذي كان الشرط بينهما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمين بعمرة ، فخافوا أن لا يوف لهم المشركون بما
[ ص: 260 ] شرطوا وأن يقتلوهم عند المسجد الحرام ، وكره المسلمون القتال في شهر حرام وبلد حرام فنزلت:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه أي: من قاتلكم من المشركين في الحرم فقاتلوه ، فإن قال قائل: فكيف يسمى الجزاء اعتداء ؟ فالجواب: إن صورة الفعلين واحدة ، وإن اختلف حكماهما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج :
والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته: أي: جازيته بظلمه ، وجهل علي فجهلت عليه ، أي جازيته بجهله .
قلت: فقد بان بما ذكرنا أن الآية محكمة ولا وجه لدخولها في المنسوخ أصلا .