صفحة جزء
والخبز تعتبر فيه القيمة هو الصحيح ، [ ص: 296 ] ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر كيلا والدقيق أولى من البر ، والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف رحمه الله ، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله لأنه أدفع للحاجة وأعجل به ، وعن أبي بكر الأعمش تفضيل الحنطة لأنه أبعد من الخلاف إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي رحمه الله قال ( والصاع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ثمانية أرطال بالعراقي ) وقال أبو يوسف رحمه الله : خمسة أرطال وثلث رطل وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام { صاعنا أصغر الصيعان } . [ ص: 297 ] ولنا ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال } وهكذا كان صاع عمر رضي الله عنه وهو أصغر من الهاشمي ، وكانوا يستعملون الهاشمي .


( قوله هو الصحيح ) احتراز كما قال بعضهم ، يراعى فيه القدر وهو أن يكون منوين من [ ص: 296 ] الخبز ، لأنه لما روعي القدر فيما هو أصله ففيه ، وأنه يزداد ذلك القدر صنعة وقيمة أولى ، والصحيح الأول لما أن القدر لا يعرف إلا من جهة الشرع ، ولم يرد إلا في المكيل ، والخبز ليس منه فكان إخراجه بطريق القيمة . ( وقوله ثم يعتبر نصف صاع من بر من حيث الوزن عند أبي حنيفة ) وجهه أن العلماء لما اختلفوا في أن الصاع ثمانية أرطال أو خمسة وثلث كان إجماعا منهم أنه يعتبر بالوزن ، إذ لا معنى لاختلافهم فيه إلا إذا اعتبر به ، وروى ابن رستم عن محمد : إنما يعتبر بالكيل لو وزن أربعة أرطال فدفعها إلى القوم لا يجزيه لجواز كون الحنطة ثقيلة لا تبلغ نصف صاع وإن وزنت أربعة أرطال ( قوله لأنها أبعد عن الخلاف ) أجيب : بأن الخلاف في الحنطة لثبوت الخلاف في قدرها أيضا لكن فيه أنه أقل شبهة .

( قوله وقال أبو يوسف خمسة أرطال وثلث ) والرطل زنة مائة وثلاثين درهما ويعتبر وزن ذلك بما لا يختلف كيله ووزنه وهو العدس والماش ، فما وسع ثمانية أرطال أو خمسة وثلثا من ذلك فهو الصاع كذا قالوا . وعلى هذا يرتفع الخلاف المذكور آنفا في تقدير الصاع كيلا أو وزنا إذا تؤمل .

( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { صاعنا أصغر الصيعان } ) ولم يعلم خلاف في قدر [ ص: 297 ] صاعه عليه الصلاة والسلام إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون وما قاله الحجازيون أصغر فهو الصحيح ، إذ هو أصغر الصيعان ، لكن الشأن في صحة الحديث ، والله أعلم به ، غير أن ابن حبان روى بسنده عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أكبر الأمداد ، فقال : اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين } ا هـ .

ثم قال ابن حبان : وفي تركه إنكار كونه أصغر الصيعان بيان أن صاع المدينة كذلك ا هـ . ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع كون السكوت حجة لأنه ليس في حكم شرعي حتى يلزم رده إن كان خطأ ، والمعول عليه ما أخرجه البيهقي عن الحسن بن الوليد القرشي وهو ثقة قال : قدم علينا أبو يوسف رحمه الله من الحج فقال : إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم أهمني ، ففحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا : صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت لهم : ما حجتكم في ذلك ؟ فقالوا : نأتيك بالحجة غدا ، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت فإدا هي سواء ، قال فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث ونقصان يسير . قال : فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة رحمه الله في الصاع .

وروي أن مالكا ناظره واحتج عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك فرجع أبو يوسف إلى قوله .

وأخرج الحاكم عن أسماء بنت أبي بكر : أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد يقتاتون به يفعل ذلك أهل المدينة كلهم ا هـ وصححه ( ولنا ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال } ) هكذا وقع مفسرا عن أنس وعائشة في ثلاثة طرق رواها الدارقطني وضعفها .

وعن جابر أسند ابن عدي عنه وضعفه بعمر بن موسى [ ص: 298 ] والحديث في الصحيحين ليس فيه الوزن ، وأما كون صاع عمر كذلك ، فأخرج ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم قال : سمعت حسن بن صالح يقول : صاع عمر ثمانية أرطال .

وقال شريك : أكثر من سبعة وأقل من ثمانية ، حدثنا وكيع عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن موسى بن طلحة قال : الحجاجي صاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهذا الثاني أخرجه الطحاوي ، ثم أخرج عن إبراهيم النخعي قال : عيرنا صاعا فوجدناه حجاجيا ، والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي . وعنه قال : وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر . قالوا : كان الحجاج يفتخر بإخراج صاع عمر ، وبتقدير تسليم ما رووه أولا لا يلزم كون خمسة أرطال وثلث صاعه الذي هو أصغر ، بل الحاصل الاتفاق على أن صاعه كان أصغر الصيعان باعتبار أنهم كانوا يستعملون الهاشمي ، وهو اثنان وثلاثون رطلا . ثم الخلاف في أن الأصغر ما قدره ثابت فلا يلزم صحة قول من قال : تقديره أقل ، إذ خصمه ينازعه في أن ذلك التقدير هو الذي كان الصاع الأصغر إذ ذاك ، ولا أعجب من هذا الاستدلال شيء ، والجماعة الذين لقيهم أبو يوسف لا تقوم بهم حجة لكونهم نقلوا عن مجهولين ، وقيل : لا خلاف بينهم ، فإن أبا يوسف لما حرره وجده خمسة وثلثا برطل أهل المدينة ، وهو أكبر من رطل أهل بغداد لأنه ثلاثون إستارا ، والبغدادي عشرون ، وإذا قابلت ثمانية بالبغدادي بخمسة وثلث بالمدني وجدتهما سواء ، وهو أشبه لأن محمدا رحمه الله لم يذكر في المسألة خلاف أبي يوسف ، ولو كان لذكره على المعتاد ، وهو أعرف بمذهبه ، وحينئذ فالأصل كون الصاع الذي كان في زمن عمر هو الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قولا بالاستصحاب إلى أن يثبت خلافا ، ولم يثبت ، وعند ذلك تكون تلك الزيادة التي فيما تقدم من رواية الدارقطني وهي لفظ ثمانية أرطال ورطلان صحيحة اجتهادا .

وإن كان فيمن في طريقها ضعف إذ ليس يلزم من ضعف الراوي سوى ضعفها ظاهرا لا الانتفاء في نفس الأمر ، إذ ليس كل ما يرويه الضعيف خطأ . وهذا لتأيدها بما ذكر من الحكم الاجتهادي بكون صاع عمر هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا ولا يخفى ما في تضعيف واقعة أبي يوسف بكون النقل عن مجهولين من النظر بل الأقرب منه عدم ذكر محمد لخلافه ، فيكون ذلك دليل ضعف أصل وقوع الواقعة لأبي يوسف ولو كان راويها ثقة لأن وقوع ذلك منه لعامة الناس ومشافهته إياهم به مما يوهم شهرة رجوعه ، ولو كان لم يعمه محمد فهو علة باطنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية