وجه الاستحسان أن هذه [ ص: 169 ] شهادة قامت على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم لأن المقصود منها نفي حجهم ، والحج لا يدخل تحت الحكم فلا تقبل ، ولأن فيه بلوى عاما لتعذر الاحتراز عنه والتدارك غير ممكن ، وفي الأمر بالإعادة حرج بين فوجب أن يكتفي به عند الاشتباه ، بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه [ ص: 170 ] يوم عرفة ، ولأن جواز المؤخر له نظير ولا كذلك جواز المقدم .
قالوا : ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا لأنه ليس فيها إلا إيقاع الفتنة . وكذا إذا شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال ، ولا يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة .
( مسائل منثورة ) من عادة المصنفين أن يذكروا عقيب الأبواب ما شذ منها من المسائل فتصير مسائل من أبواب متفرقة فتترجم تارة بمسائل منثورة وتارة بمسائل شتى ( قوله وشهد قوم ) صورتها أن يشهدوا أنهم رأوا هلال ذي الحجة في ليلة [ ص: 169 ] كذا اليوم يكون يوم الوقوف منه العاشر . وذكر للاستحسان أوجها : أحدها أنها قامت على النفي : أي نفي جواز الوقوف وما لا يدخل تحت الحكم ، وليس هذا بشيء لأنها قامت على الإثبات حقيقة وهو رؤية الهلال في ليلة قبل رؤية أهل الموقف ، ثم هو يستلزم عدم جواز وقوفهم ، ولا حاجة إلى الحكم بل الفتوى تفيد عدم سقوط الفرض فيخاطب به ، وعدم سقوطه هو المراد هاهنا وصار كما لو رآه أهل الموقف كذلك ثم أخروا الوقوف .
ثالثها : أنها مقبولة لكن وقوفهم جائز لأن هذا النوع من الاشتباه مما يغلب ولا يمكن التحرز عنه ، فلو لم يحكم بالجواز بعد الاجتهاد لزم الحرج الشديد وقد نفاه بفضله الغني عن العالمين . وهذا الوجه يصلح بيانا بالحكمة الدليل السمعي المذكور فيما قبله ، وإذا كانت هذه الشهادة لا يترتب عليها عدم صحة الوقوف فلا فائدة في سماعها للإمام فلا يسمعها لأن سماعها يشهرها بين عامة الناس من أهل الموقف فيكثر القيل والقال فيها وتثور الفتنة وتتكدر قلوب المسلمين بالشك في صحة حجهم بعد طول عنائهم ، فإذا جاءوا ليشهدوا يقول لهم انصرفوا لا نسمع هذه الشهادة قد تم حج الناس .
وهل يجوز وقوف الشهود ؟ روى هشام عن nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد أنه يجوز وقوفهم وحجهم . قال nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد رحمه الله : وإذا كان من رأى الهلال وقف يوم عرفة : يعني في اليوم الذي شهد لم يجز وقوفه وعليه أن يعيد الوقوف مع الإمام لأن يوم النحر جاز أن يكون يوم الحج في حق الجماعة ، ووقت الوقوف لا يجوز أن يختلف فيه فلا يعتد بما فعله بانفراده ، وكذا إذا أخر الإمام الوقوف لمعنى يسوغ فيه الاجتهاد لم يجز وقوف من وقف قبله .
فإن شهد شاهدان بهلال ذي الحجة فردت شهادتهما لأنه لا علة بالسماء فوقف بشهادتهما قوم قبل الإمام لم يجز وقوفهم لأنه أخره بسبب يجوز العمل عليه في الشرع فصار كما لو أخره للاشتباه ( قوله بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية لأن التدارك ممكن ) يعني إذا ظهر لهم خطؤهم والكلام في تصوير ذلك ، ولا شك أن وقوفهم يوم التروية على أنه التاسع لا يعارضه شهادة من شهد أنه الثامن لأن اعتقاده أنه الثامن إنما يكون بناء على أن أول ذي الحجة ثبت بإكمال عدة ذي القعدة واعتقاده التاسع بناء على أنه رئي [ ص: 170 ] قبل الثلاثين من ذي القعدة فهذه شهادة على الإثبات .
والقائلون إنه الثامن حاصل ما عندهم نفي محض ، وهو أنهم لم يروا ليلة الثلاثين من ذي القعدة ورآه الذين شهدوا فهي شهادة مقبولة لا معارض لها ( قوله وكذا إذا شهدوا عشية عرفة ) بأن شهدوا في الليلة التي هم بها في منى متوجهين إلى عرفات أن اليوم الذي خرجنا به من مكة المسمى بيوم التروية كان التاسع لا الثامن ، ولا يمكنه الوقوف بأن يسير إلى عرفات في تلك الليلة ليقف ليلة النحر بالناس أو أكثرهم لم يعمل بها ويقف من الغد بعد الزوال لأنهم وإن شهدوا عشية عرفة لكن لما تعذر الوقوف فيما بقي من الليل صار كشهادتهم بعد الوقت ، وإن كان الإمام يمكنه الوقوف في الليل مع الناس أو أكثرهم ولا يدركه ضعفة الناس لزمه الوقوف ثانيا ، فإن لم يقف فات حجه لترك الوقوف في وقته مع القدرة عليه