( باب التدبير ) . لما فرغ من بيان العتق الواقع في حال الحياة شرع في بيان العتق الواقع بعد الموت ، ووجه الترتيب ظاهر ، وهذا أحسن مما قيل فيه إنه مقيد والمقيد مركب ، وهو بعد المفرد ; لأن مسائل باب الحلف بالعتق كله كذلك فإنها تقييد للعتق بشرط غير الموت ، كما أن التدبير تقييده بشرط الموت ولم يؤخرها إلى هاهنا ، ثم التدبير لغة النظر في عواقب الأمور . وشرعا العتق الموقع بعد الموت في المملوك معلقا بالموت مطلقا لفظا أو معنى وشرطه الملك فلا يصح تدبير المكاتب لانتفاء حقيقة الملك عنه فإنه مالك يدا ، ولا معنى في التحقيق لقولهم مالك يدا ، بل الواجب أن يقال ملكه متزلزل إذ لا شك في أنه مالك شرعا لكنه بعرض أن يزول بتعجيزه نفسه ، وغاية الأمر أن بعض آثار الملك منتف ، وهو لا يوجب نفي حقيقة الملك كملك الأمة المجوسية والوثنية والبلوغ والعقل فلا يصح تدبير الصبي والمجنون . وفي المبسوط : فأما السكران والمكره فتدبيرها جائز عندنا كإعتاقهما ، ولو قال العبد أو المكاتب إذا أعتقت فكل مملوك أملكه حر فعتق فملك مملوكا عتق ; لأنه مخاطب له قول معتبر ، وقد أضاف العتق إلى ما بعد حقيقة [ ص: 19 ] الملك له فيصح ويكون عند وجود الملك كالمنجز له ، بخلاف ما لو قال كل مملوك أملكه إلى خمسين سنة فهو حر فعتق قبل ذلك فملك لا يعتق عند nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وقالا : يعتق ، وما ذكرنا من اشتراط البلوغ والعقل هو في تدبير المالك أما الوكيل فلا .
في المبسوط : لو قال لصبي أو مجنون دبر عبدي إن شئت فدبره جاز ، وهذا على المجلس لتصريحه بالمشيئة ونظيره في العتق والطلاق . وإذ قد أنجز الكلام إلى الوكالة فهذا فرع منه . قال لرجلين دبرا عبدي فدبره أحدهما جاز ، ولو جعل أمره في التدبير إليهما بأن قال جعلت أمره إليكما في تدبيره فدبره أحدهما لا يجوز ; لأنه ملكهما هذا التصرف فلا ينفرد به أحدهما ، بخلاف الأول ; لأنه جعلهما معبرين عنه ، وعبارة الواحد وعبارة المثنى سواء ، ألا ترى أن له ينهاهما قبل أن يدبراه في هذا الفصل وليس له ذلك في جعل الأمر إليهما ، كذا في المبسوط . ( قوله : إذا قال المولى لمملوكه إذا مت فأنت حر أو أنت حر عن دبر مني أو أنت مدبر أو وقد دبرتك صار مدبرا ) ; لأن هذه الألفاظ صريح في التدبير ، فإنه أي التدبير إثبات العتق عن دبر .
وهذه تفيد ذلك بالوضع فأفاد أن كلما أفاد إثباته عن دبر كذلك فهو صريح ، وهو ثلاثة أقسام . الأول : ما يكون بلفظ إضافة كبعض ما ذكرنا ومنه إن حررتك أو أعتقتك أو أنت حر أو محرر أو عتق أو معتق بعد موتي . والثاني ما يكون بلفظ التعليق كإن مت أو إذا مت أو متى مت أو حدث بي حدث أو حادث فأنت حر وتعورف الحدث والحادث في الموت ، وكذا أنت حر مع موتي أو في موتي فإنه تعليق العتق بالموت بناء على أن مع وفي تستعار في معنى حرف الشرط ، وروى هشام عن nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد إذا قال أنت مدبر بعد موتي يصير مدبرا في الحال ; لأن المدبر اسم لمن يعتق عن دبر موته فكان هذا وأنت حر بعد موتي سواء ، وكذا أعتقتك أو حررتك بعد موتي .
والثالث : ما يكون بلفظ الوصية كأوصيت لك برقبتك أو بنفسك أو بعتقك ، وكذا إذا قال أوصيت لك بثلث مالي فتدخل رقبته ; لأنها من ماله فيعتق ثلث رقبته . وفي الكافي : أنت حر أو مدبر أو عتيق يوم يموت يصير مدبرا ، والمراد باليوم الوقت ; لأنه قرن به ما لا يمتد ، ولو نوى النهار فقط لا يكون مدبرا مطلقا ; لجواز أن يموت ليلا . يعني فيجوز بيعه ، فإن لم يبعه حتى مات عتق كالمدبر ، وإنما كانت صرائح ; لأنها استعملت في الشرع ، وكذلك { nindex.php?page=hadith&LINKID=83712قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أم الولد فهي معتقة عن دبر منه } ذكره في المبسوط ، ثم توورثت بلا شبهة في هذا المعنى . ولو قال أنت حر بعد موتي وموت فلان فليس بمدبر مطلق ; لأنه لم يتعلق عتقه بموته مطلقا ، فإن مات المولى قبل فلان لم يعتق ; لأن الشرط لم يتم فصار ميراثا للورثة ، وكان لهم أن يبيعوه ، وإن مات فلان أولا يصير مدبرا مطلقا فليس له أن يبيعه خلافا لزفر ; لأنه كما لو قال إذا كلمت فلانا فأنت حر بعد موتي فكلمه أو قال أنت حر بعد كلامك فلانا أو بعد موتي فإذا كلم فلانا صار مدبرا . ولو قال بعد موتي إن شئت ينوي فيه ، فإن نوى المشيئة الساعة فشاء العبد ساعته فهو حر بعد موته من الثلث ; لوجود شرط التدبير فيصير مدبرا ، وإن نوى المشيئة بعد الموت فإذا مات [ ص: 20 ] المولى فشاء العبد عند موته فهو حر بوجود الشرط لا باعتبار التدبير .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=14330الشيخ أبو بكر الرازي يقول : الصحيح أنه لا يعتق هنا إلا بإعتاق من الورثة أو الوصي بمثل ما تقدم في الباب المتقدم من أنه لما لم يعتق بنفس الموت صار ميراثا فلا يعتق بعده إلا بإعتاق منهم ويكون هذا وصية يحتاج إلى تنفيذها ، كما لو قال أعتقوه بعد موتي إن شاء وهو نظير ما لو قال أنت حر بعد موتي بشهر فإنه لا يعتق إلا بإعتاق منهم بعد الشهر ، نص عليه nindex.php?page=showalam&ids=13234ابن سماعة في نوادره وكذا بيوم . وفي الإسبيجابي : إذا لم يعتق إلا بإعتاق الوارث أو الوصي فللوارث أن يعتقه تنجيزا أو تعليقا ، والوصي لا يملكه إلا تنجيزا ، ولو أعتقه عن كفارته عتق عن الميت دون الكفارة .
والذي ينبغي أن يفصل في التعليق فإن علقه بشرط من جهة نفسه ثم لم يفعله أو بمضي زمان طويل أو على فعل العبد وهو مما يتعذر عليه أو يتعسر لا يلزم العبد توقفه عليه ، بل إن شاء رفع إلى القاضي لينجز عتقه ، ثم في ظاهر الجواب يعتبر وجود المشيئة من العبد في مجلس موته أو علمه بموته كما يتقيد بهذا مشيئته في حياته بمجلس التفويض إليه إذا كان بهذا اللفظ . وعن nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف : لا يتوقف به ; لأنه في معنى الوصية ولا يشترط في الوصية القبول في المجلس . وفي الأصل : لو قال بعد موتي بيوم لم يكن مدبرا وله أن يبيعه ; لأنه ما علقه بمطلق الموت بل بمضي يوم بعده ، فإن مات لم يعتق في الوقت الذي سمى حتى يعتقه الورثة ، وهذا يؤيد ما ذكر nindex.php?page=showalam&ids=14330أبو بكر الرازي ، ومن المشايخ من فرق بين هذه وبين الأولى فقال : إذا أخر العتق عن موته بزمان ممتد بيوم أو شهر وتقرر ملك الوارث في ذلك الزمان عرفنا أن مراده الأمر بإعتاقه فلا يعتق ما لم يعتقوه ، وأما في مسألة المشيئة فإنها تتصل بمشيئة العبد بموت المولى قبل تقرر الملك للوارث فيعتق بإعتاق المولى ، ولا تدعو إلى إعتاق الوارث ، وهذا إن تم أشكل على ما تقدم في مسألة أنت حر بعد موتي بألف ، فإن زمن القبول كزمن المشيئة ، فإنه يجب أن يوصل بموت المولى أو بعلمه بموته .
لا يقال : ينبغي أن يجعل العبد في هذه المسألة وتلك باقيا على حكم ملك الميت لحاجته إلى نفاذ إيجابه وثبوت اعتباره شرعا ، وما قدمناه من أن القبول غير معلوم يدفع بأنه ، وإن كان كذلك لكنه متوقع . وعلى تقدير وجوده يلزم إخراجه عن ملكهم بعد الدخول واستصحاب الملك الأول أسهل من رفعه ، ثم إدخاله في ملك شخص ثم إخراجه عنه فوجب أن يبقى لحاجته . ثم لا شك أن هذه المسألة أقرب ; لأن العتق هنا يقع هنا يقع مجانا فوجب عتقه من جهة المولى . لأنا نقول : لو صح ذلك لزم في أنت حر بعد موتي بيوم عدم توقفه ، بل أولى ; لأن مجيء اليوم بعده معلوم غير مشكوك ، وهي من مواضع النص على أنه لا يعتق إلا بإعتاقهم .