قال ( وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم ) لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم حيث لا يكون هذا نقضا للعهد ، ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم ; لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد لأنه باتفاقهم معنى .
( باب الموادعة ومن يجوز أمانه )
الموادعة المسالمة ، وهو جهاد معنى لا صورة ، فأخره عن الجهاد صورة ومعنى ، وما قيل ; لأنه ترك الجهاد ، وترك الشيء يقتضي سبق وجوده فغير صحيح بل يتحقق ترك الزنا وسائر المعاصي ممن لم توجد منه أصلا ، ويثاب على ذلك ، وكيف وهو مكلف بتركها في جميع عمره ، وإلا كان تكليفا بالمحال ( قوله وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم ) بمال وبلا مال ( وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } ) والآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا يجوز بالإجماع .
وفي السلم كسر السين وفتحها مع سكون اللام وفتحها ، ومنه قوله تعالى { وألقوا إليكم السلم } ومقتضى الأصول أنها إما منسوخة إن كانت الثانية بعدها : أي نسخ الإطلاق وتقييده بحالة المصلحة ، أو المعارضة في حالة عدم وجود المصلحة إن لم يعلم ثم ترجح مقتضى المنع . أعني آية { ولا تهنوا } كما هو القاعدة في تقديم المحرم . [ ص: 456 ] وأما حديث موادعته عليه الصلاة والسلام { nindex.php?page=hadith&LINKID=84005أهل مكة عام الحديبية عشر سنين } فنظر فيه بعض الشارحين بأن الصحيح عند أصحاب المغازي أنها سنتان ، كذا ذكره nindex.php?page=showalam&ids=17116معتمر بن سليمان عن أبيه ، وليس بلازم ; لأن الحاصل أن أهل النقل مختلفون في ذلك ، فوقع في سيرة nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة أنها كانت سنتين أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي عنه وعن nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير مرسلا ، ثم قال nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي : وقولهما سنتين يريدان بقاءه سنتين إلى أن نقض المشركون عهدهم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم لفتح مكة ، وأما المدة التي وقع عليها عقد الصلح فيشبه أن يكون المحفوظ ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=16903محمد بن إسحاق وهي عشر سنين ا هـ . وما ذكره عن nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق هو المذكور في سيرته وسيرة ابن هشام من غير أن يتعقبه . ورواه أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=16903محمد بن إسحاق عن الزهري عن nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة nindex.php?page=showalam&ids=17065ومروان بن الحكم أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال . ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد رحمه الله في مسنده مطولا بقصة الفتح : حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، أنبأنا nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق فساقه إلى أن قال : على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض .
وكذا رواه nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي في المغازي : حدثني nindex.php?page=showalam&ids=12503ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي بردة عن واقد بن عمرو ، فذكر قصة الحديبية إلى أن قال : على وضع الحرب عشر سنين إلخ . والوجه الذي ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وجه حسن به تنتفي المعارضة فيجب اعتباره فإن الكل اتفقوا على أن سبب الفتح كان نقض قريش العهد حيث أعانوا على خزاعة وكانوا دخلوا في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفوا في مدة الصلح فوقع الخلاف ظاهرا بأن مراد من قال سنتين أن بقاءه سنتان ، ومن قال عشرا قال إنه عقده عشرا كما رواه كذلك فإنه لا تنافي بينهما حينئذ ، والله سبحانه أعلم ( قوله ولا يقتصر الحكم ) وهو جواز الموادعة ( على المدة المذكورة ) وهي عشر سنين ( لتعدي المعنى ) الذي به علل جوازها ، وهو حاجة المسلمين أو ثبوت مصلحتهم فإنه قد يكون بأكثر ( بخلاف ما إذا لم تكن ) الموادعة أو المدة المسماة ( خيرا ) للمسلمين فإنه لا يجوز ( لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى ) وما أبيح إلا باعتبار أنه جهاد ، وذلك إنما يتحقق إذا كان خيرا للمسلمين ، وإلا فهو ترك للمأمور به ، وبهذا يندفع ما نقل عن بعض العلماء من منعه أكثر من عشر سنين .
وإن كان الإمام غير مستظهر وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ولقد كان صلح الحديبية مصالح عظيمة ، فإن الناس لما تقاربوا انكشف محاسن الإسلام للذين كانوا متباعدين لا يعقلونها من المسلمين لما قاربوهم وتخالطوا بهم [ ص: 457 ] قوله وإن صالحهم مدة ثم رأى أن نقض الصلح أنفع نبذ إليهم ) أي ألقى إليهم عهدهم وذلك بأن يعلمهم أنه رجع عما كان وقع ، قال تعالى { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك ، لكن ظاهر الآية أنه مقيد بخوف الخيانة ، وهو مثل { إن علمتم فيهم خيرا } في الكتابة ، ولعل خوف الخيانة لازم للعلم بكفرهم وكونهم حربا علينا .
وأما ما ذكر المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام { nindex.php?page=hadith&LINKID=84007وفاء لا غدر } فلم يعرف في كتب الحديث إلا من قول nindex.php?page=showalam&ids=81عمرو بن عبسة هذا . وأما استدلاله { بأنه صلى الله عليه وسلم نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة } فالأليق أن يجعل دليلا فيما يأتي من قوله ( وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان باتفاقهم لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه ) وكذا إذا دخل جماعة منهم لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا في حقهم خاصة فيقتلون ويسترقونهم ومن معهم من الذراري ، إلا أن يكون بإذن ملكهم فيكون نقضا في حق الكل ، ولو لم تكن لهم منعة لم يكن نقضا لا في حقهم ، ولا في حق غيرهم .
وإنما قلنا هذا ; لأنه لم يبدأ أهل مكة بل هم بدءوا بالغدر قبل مضي المدة فقاتلهم ولم ينبذ إليهم بل سأل الله تعالى أن يعمي عليهم حتى [ ص: 458 ] يبغتهم ، هذا هو المذكور لجميع أصحاب السير والمغازي .