قال ( الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت ، [ ص: 433 ] وإن خالفتها لم تقبل ) لأن تقدم الدعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة ، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها .
( باب الاختلاف في الشهادة )
الاختلاف في الشهادة خلاف الأصل ، بل الأصل الاتفاق لأن الأصل فيما يتفرع عن جهة واحدة ذلك ، والشهادة كذلك لأنها تتفرع إما عن رؤية كما في الغصب والقتل أو سماع إقرار وغيره ، والشاهدان مستويان في إدراك ذلك فيستويان فيما يؤديان فلهذا أخره عما لم يذكر فيه خلاف ( قوله الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت . [ ص: 433 ] وإن خالفتها لم تقبل ) لأن تقدم الدعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة لأنها لإثبات في حقه فلا بد من طلبه وهو الدعوى ( وقد وجدت ) الدعوى ( فيما يوافقها ) أي يوافق الشهادة فوجد شرط قبولها فتقبل ( وانعدمت فيما يخالفها ) فإنها لما لم توافقها صارت الدعوى بشيء آخر وشرط قبول الدعوى بما به الشهادة .
واعلم أنه ليس المراد من الموافقة المطابقة ، بل إما المطابقة أو كون المشهود به أقل من المدعى به ، بخلاف ما إذا كان أكثر ، فمن الأقل ما لو ادعى نكاح امرأة بسبب أنه تزوجها بمهر كذا فشهدوا أنها منكوحته بلا زيادة تقبل ، ويقضي بمهر المثل إن كان قدر ما سماه أو أقل ، فإن زاد عليه لا يقضي بالزيادة ، كذا في غير نسخة من الخلاصة .
والظاهر أنه إنما يستقيم إذا كانت هي المدعية ، ومنه إذا ادعى ملكا مطلقا أو بالنتاج فشهدوا في الأول بالملك بسبب وفي الثاني بالملك المطلق قبلتا ، لأن الملك بسبب أقل من المطلق لأنه يفيد الأولية ، بخلاف بسبب يفيد الحدوث ، والمطلق أقل من النتاج لأن الملك المطلق يفيد الأولية على الاحتمال والنتاج على اليقين ، وفي قلبه وهو دعوى المطلق فشهدوا بالنتاج لا تقبل .
ومن الأكثر ما لو ادعى الملك بسبب فشهدوا بالمطلق لا تقبل إلا إذا كان ذلك السبب الإرث ، [ ص: 434 ] لأن دعوى الإرث كدعوى المطلق هذا هو المشهور . وقيده في الأقضية بما إذا نسبه إلى معروف سماه ونسيه .
أما لو جهله فقال اشتريته أو قال من رجل أو زيد وهو غير معروف فشهدوا بالمطلق قبلت فهي خلافية . وذكر الخلاف في القبول رشيد الدين ، وعن هذا اختلفوا فيما إذا تحمل الشهادة على ملك بسبب ، وأراد أن يشهد بالمطلق لم يذكر في شيء من الكتب . واختلف المشايخ فيه والأصح لا يحل له . قلت : كيف وفيه إبطال حقه فإنها لا تقبل فيما لو ادعاها بسبب . ولو ادعى الشراء مع القبض فقال وقبضته منه هل هو كالمطلق حتى لو شهدوا بالمطلق قبلت . الخلاصة تقبل . وحكي في فصول العمادي خلافا ، قيل تقبل لأن دعوى الشراء مع القبض دعوى مطلق الملك حتى لا يشترط لصحة هذه الدعوى تعيين العبد ، وقيل لا لأن دعوى الشراء معتبرة في نفسها لا كالمطلق ; ألا يرى أنه لا يقضي له بالزوائد في ذلك . وفي زوائد شمس الإسلام : دعوى الدين كدعوى العين ، وكذا في شرح الحيل للحلواني ، فلو ادعى الدين بسبب القرض وشبهه فشهدوا بالدين مطلقا ، قال شمس الأئمة محمود الأوزجندي : لا تقبل . قال في المحيط في الأقضية : مسألتان يدلان على القبول انتهى . وعندي الوجه القبول لأن أولية الدين لا معنى له ، بخلاف العين . وفي فتاوى رشيد الدين : لو ادعى الملك المطلق فشهدوا عليه بسبب ثم شهدوا على المطلق لا تقبل لأنهم لما شهدوا بسبب حمل دعوى المطلق عليه فلا تقبل بعده على المطلق . ولو شهدوا أولا على المطلق ثم شهدوا على الملك بسبب تقبل لأنه ببعض ما شهدوا به أولا . ولو ادعى المطلق فشهد أحدهما به والآخر مع السبب تقبل ويقضي بالملك الحادث كما لو شهدا جميعا به ، وكل ما كان بسبب عقد شراء أو هبة فهو ملك حادث . ولو ادعى بسبب فشهد أحدهما به والآخر مطلقا لا تقبل كما لو شهدوا جميعا بالمطلق ودعوى الملك بسبب الإرث كدعوى الملك المطلق . وإذا أرخ أحد الشاهدين دون الآخر تقبل في دعوى غير المؤرخ لا في دعوى الملك المؤرخ . ولو ادعى الشراء بسبب أرخه فشهدوا له به بلا تاريخ تقبل لأنه أقل وعلى القلب لا تقبل ، ولو كان الشراء شهران فأرخوا شهرا تقبل . وعلى القلب لا ، ولو أرخ المطلق بأن قال هذا العين لي منذ سنة فشهدا أنه له منذ سنتين لا تقبل وعلى القلب تقبل .
أما لو شهدوا باليد له في الماضي لا يقضى به في ظاهر الرواية وإن كانت اليد تسوغ الشهادة بالملك على ما أسلفناه .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف يقضي بها ، وخرج العمادي على هذا ما في الواقعات : لو أقر بدين رجل عند رجلين ثم شهد عدلان عند الشاهدين أنه قضى دينه أن شاهدي الإقرار يشهدان كان عليه دين ولا يشهدان أن له عليه ، فقال هذا أيضا دليل على أنه إذا ادعى الدين وشهدوا أنه كان عليه تقبل ، وهذا غلط فإنه إنما تعرض لما يسوغ له أن يشهد به لا للقبول وعدمه ، بل ربما يؤخذ من منعه إحدى العبارتين دون الأخرى ثبوت القبول في إحداهما دون الأخرى ، كيف وقد ثبت بشهادة العدلين عند الشاهدين أنه قضاه فلا يشهدان حتى يخبر القاضي بذلك ، وأن القاضي حينئذ لا يقضي بشيء ، وسيأتي من مسائل الكتاب إذا علم شاهد الألف أنه قضاه خمسمائة لا يشهد حتى يقر بقبضها ، والله سبحانه أعلم .
وعكس ما نحن فيه لو ادعى في الماضي أن هذه الجارية كانت ملكي فشهد أنها له اختلف في قبولها ، والأصح أنها لا تقبل ، وكذا لو ادعى أنه كان له وشهد أنه كان له لا تقبل ، وإنما تقبل إذا شهدوا على طبق دعواه هذه أنها كانت له لأن إسناد المدعي دليل على نفي ملكه في الحال ، إذ لا فائدة له في الاقتصار على الماضي إلا ذلك فلم يكن ما شهدوا به مدعى به بخلاف الشاهدين إذا أسندا ذلك لا يدل على نفيهما إياه في الحال لجواز قصدهما إلى الاحتراز عن الإخبار بما لا علم لهما به إذ لم يعلما سوى ثبوته في الماضي وقد يكون انتقل فيحترزان عنه وإن كان يثبت للحال بالاستصحاب .
فإذا اختلف الشاهدان ووجد شرط القبول في شهادة أحدهما فقط وهو ما طابق الدعوى من الشاهدين فالواحد لا تقوم به الحجة للقاضي . وإنما قيد الاشتراط بحقوق العباد احترازا عن حقوق الله سبحانه ، فإن الدعوى مدع خاص غير الشاهد ليس شرطا لقبول الشهادة لأن حقه تعالى واجب على كل أحد القيام به في إثباته ، وذلك للشاهد من جملة من عليه ذلك فكان قائما في الخصومة من جهة الوجوب عليه وشاهدا من جهة تحمل ذلك فلم يحتج فيها إلى خصم آخر .