صفحة جزء
قال ( وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى ) [ ص: 266 ] لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه فاستويا ، وترجحت بينة ذي اليد باليد فيقضي له [ ص: 267 ] وهذا هو الصحيح خلافا لما يقوله عيسى بن أبان إنه تتهاتر البينتان ويترك في يده لا على طريق القضاء ،


( قال ) أي القدوري : في مختصره ( وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى ) سواء أقام صاحب اليد بينة على دعواه قبل القضاء بها للخارج أو بعده ، [ ص: 266 ] وهذا جواب الاستحسان . وأما جواب القياس فالخارج أولى ، وبه أخذ ابن أبي ليلى . ووجهه أن ببنة الخارج أكثر استحقاقا من بينة ذي اليد لأن الخارج ببينته كما يثبت استحقاق أولية الملك بالنتاج يثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد بظاهر يده ، وذو اليد ببينته لا يثبت استحقاق الملك الثابت للخارج بوجه ما ، فكانت بينة الخارج أولى بالقبول كما في دعوى الملك المطلق ، كذا في النهاية وكثير من الشروح . ووجه الاستحسان ما أشار إليه المصنف بقوله ( لأن البينة ) أي بينة ذي اليد ( قامت على ما لا تدل عليه اليد ) وهو أولية الملك بالنتاج كبينة الخارج ( فاستويا وترجحت بينة ذي اليد باليد فيقضي له ) أي لذي اليد سواء كان ذلك قبل القضاء بها للخارج أو بعده . أما قبله فظاهر ، وأما بعده فلأن ذا اليد لم يصر مقضيا عليه لأن بينته في نفس الأمر دافعة لبينة الخارج لأن النتاج لا يتكرر ، فإذا ظهرت بينة دافعة تبين أن الحكم لم يكن مستندا إلى حجة فلا يكون معتبرا ، كذا قرر في العناية واكتفى به . أقول : يرد عليه أن وجه الاستحسان بهذا التقرير لا يدفع ما ذكروا من وجه القياس ; لأن تساوي البينتين من جهة دلالة كل وجه منهما على أولية الملك بالنتاج لا ينافي أن تكون بينة الخارج أكثر إثباتا للاستحقاق من بينة ذي اليد من جهة إثبات بينة الخارج استحقاق الملك الثابت لذي اليد بظاهر يده ، وعدم إثبات بينة ذي اليد استحقاق الملك الثابت للخارج بوجه ما على ما صرح به في وجه القياس ، فينبغي أن تكون بينة الخارج أولى بناء على زيادة الإثبات .

وقد كان صاحب النهاية والكفاية تداركا ذلك فزادا في تقريرهما شيئا لدفعه حيث قالا : وأما قوله : إن بينة الخارج أكثر استحقاقا . قلنا : نعم كذلك ، إلا أن في بينة ذي اليد سبق التاريخ لأنها تثبت أولية الملك على وجه لا يحتمل التمليك من جهة الغير فكان أولى ألا يرى أنهما لو ادعيا ملكا مطلقا وأرخا وذو اليد أسبقهما تاريخا يقضي لذي اليد وإن كانت في بينة الخارج زيادة استحقاق على ذي اليد انتهى .

أقول : ويرد عليه أن كون بينة ذي اليد مثبتة لأولية الملك على وجه لا يحتمل التمليك من جهة الغير إنما نشأ من إثباتها النتاج الذي لا يتكرر ، وهذا المعنى بعينه موجود في بينة الخارج أيضا ; لأن كلامنا فيما إذا أقام كل واحد من الخارج وصاحب اليد بينة على النتاج كما هو صريح مسألة الكتاب هاهنا وفيما إذا لم يذكرا تاريخا ، فإن ما إذا ذكرا تاريخا مسألة أخرى لها أقسام وأحكام أخر كما سيجيء في آخر هذا الباب ، فإذا لا معنى لسبق التاريخ في بينة ذي اليد في مسألتنا هذه فلا تمشية للتوجيه الذي ذكراه هاهنا . واعلم أن وجه الاستحسان الذي لا يحوم حوله شائبة إشكال هاهنا ما روى أبو حنيفة عن الهيثم عن رجل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه { أن رجلا ادعى ناقة في يدي رجل وأقام البينة أنها ناقته نتجها وأقام ذو اليد [ ص: 267 ] البينة أنها ناقته نتجها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها للذي هي في يده } ثم اعلم أنه ذكر في الشروح أخذا من الذخيرة أن بينة ذي اليد على النتاج إنما تترجح على بينة الخارج إذا لم يدع الخارج على ذي اليد فعلا نحو الغضب أو الوديعة أو الإجارة أو الرهن أو ما أشبه ذلك .

وأما إذا ادعى فبينة الخارج أولى لأن ذا اليد بينته تثبت ما هو ثابت ظاهر يده من وجه والخارج بينته تثبت الفعل وهو غير ثابت أصلا فكانت بينة الخارج أكثر إثباتا فهي أولى انتهى . ولكن قال عماد الدين في فصوله بعد نقل ما في الشروح عن دعوى الذخيرة : وذكر الفقيه أبو الليث في باب دعوى النتاج في المبسوط ما يخالف المذكور في الذخيرة فقال : دابة في يد رجل أقام آخر بينة أنها دابته آجرها من ذي اليد أو أعارها منه أو رهنها إياه وصاحب اليد أقام بينة أنها دابته نتجت عنده فإنه يقضي بها لصاحب اليد لأنه يدعي ملك النتاج والآخر يدعي الإعارة أو الإجارة أو الرهن والنتاج أسبق من الإعارة أو الإجارة والرهن فيقضي لذي اليد ، وهذا خلاف ما ذكر في الذخيرة انتهى ( وهذا ) أي ما ذكر من القضاء لذي اليد ( هو الصحيح ) وإليه ذهب عامة المشايخ ( خلافا لما يقوله عيسى بن أبان إنه تتهاتر البينتان ويترك في يده ) أي يترك المتنازع فيه في يد ذي اليد ( لا على طريق القضاء ) أي لا على طريق قضاء الاستحقاق بل على طريق قضاء الترك .

وجه قوله : إن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين إذ لا يتصور نتاج دابة من دابتين ، وفي مثل هذا تتهاتر البينتان كما في مسألة كوفة ومكة على ما مر في أول هذا الباب . وجه صحة ما ذهب إليه العامة أن محمدا رحمه الله ذكر في الخارجين : أقاما البينة على النتاج أنه يقضي به بينهما نصفين ولو كان الطريق ما قاله لكان يترك في يد ذي اليد ، وكذلك قال : لو كانت الشاة المذبوحة في يد أحدهما وسواقطها في يد الآخر وأقام كل واحد منهما البينة على النتاج فيها يقضي بها وبالسواقط لمن في يده أصل الشاة ، ولو كان الطريق تهاتر البينتين لكان يترك في يد كل واحد منهما ما في يده .

والجواب عن قوله : إن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين ما ذكرناه في شهادة الفريقين على الملكين بأن كل واحد منهما اعتمد سببا ظاهرا مطلقا لأداء الشهادة ، وهذا لأن الشهادة على النتاج لا يلزم فيها معاينة الانفصال من الأم ، بل يكفي رؤية الفصيل يتبع الناقة فكل من الفريقين في شهادته على النتاج يجوز أن يعتمد سببا ظاهرا لأداء الشهادة فيجب العمل بها ولا يصار إلى التهاتر بمنزلة شهادة الفريقين على الملكين حيث لا تتهاتر البينتان مع أن العين الواحد لا يتصور أن يكون مملوكا لشخصين في زمان واحد لكل واحد منهما بكماله ، ولكن لما وجد القاضي لشهادة كل واحد من الفريقين محملا يطلق له أداء الشهادة بأن عاين أحد الفريقين أحد الخصمين يباشر سبب الملك وعاين الفريق الآخر الخصم الآخر يتصرف فيه تصرف الملاك قبل شهادة الفريقين ، كذا هاهنا .

وعن هذا خرج الجواب عن مسألة مكة والكوفة لأن القاضي لم يجد لشهادة الفريقين هناك محملا يطلق لكل واحد منهما أداء الشهادة لأن المطلق للشهادة بالطلاق والعتاق معاينة الشهود إيقاع الطلاق والعتاق ، ولا يتصور سماع الفريقين إيقاع الطلاق والعتاق في يوم واحد من شخص واحد بمكة وكوفة ; لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون في مثل ذينك المكانين عادة فتهاترت البينتان هناك لذلك ، أما هاهنا فبخلافه . ثم إن ثمرة الخلاف إنما تظهر في حق [ ص: 268 ] تحليف ذي اليد وعدمه ، فعند عيسى بن أبان يحلف ذو اليد للخارج لأن البينتين لما تهاترتا صار كأن البينتين لم تقوما بالشهادة أصلا فيقضي لذي اليد قضاء ترك بعدما حلف للخارج ، وعند العامة لا يحلف ، كذا في المبسوط والذخيرة

التالي السابق


الخدمات العلمية