قال : ( فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز ) استحسانا ( وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض ) والقياس أن لا يجوز في الوجهين وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ; لأن القبض تصرف في ملك الواهب ، إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح [ ص: 22 ] بدون إذنه ، ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك ، [ ص: 23 ] والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض ، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق ; لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول ، والقبول يتقيد بالمجلس ، فكذا ما يلحق به ، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس ; لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح .
[ ص: 22 ] قوله : ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك ) قال الشراح : قوله : في الهبة متعلق بالقبض لا بالقبول ، فالمعنى أن القبض في الهبة بمنزلة القبول في البيع من حيث إن الحكم وهو الملك يتوقف عليه في الهبة كما يتوقف على القبول في البيع ، وبه صرح في المبسوط وأشار إليه في الإيضاح . وقال بعض الفضلاء : ولا أدري ما المانع عن تعلقه بالقبول ، فإن التوقف لا يستلزم الإيجاب التام ا هـ . أقول : لعل المانع عنه أمران : أحدهما أن المتبادر من كون الشيء بمنزلة الشيء أن يكون قائما مقامه ، وهذا لا يتصور فيما إذا كانا في عقد واحد كالقبض والقبول في الهبة ، فإن كلا منهما حينئذ يعطى حكم نفسه بنفسه فلا يأخذ أحدهما حكم الآخر فلا يوجد نزول أحدهما منزلة الآخر وقيامه مقامه ، بخلاف ما إذا كانا في عقدين مختلفين كالقبض في الهبة والقبول في البيع فإنه يجوز حينئذ أن يأخذ أحدهما حكم الآخر فيكون بمنزلته .
وعن هذا قال في المبسوط : ولما كان القبض في الهبة بمنزلة القبول في البيع أخذ حكم القبول في البيع . وثانيهما أن التوقف وإن لم يستلزم الإيجاب التام إلا أن القبول في الهبة كما لا يوجب ثبوت حكم عقد الهبة وهو الملك لا يتوقف عليه أيضا ثبوت حكم عقد الهبة لثبوت حكمه بدون تحقق القبول ، فإنه لو قال وهبتك هذا الشيء فقبضه الموهوب له من غير قبول صح وملكه ; لوجود القبض ، نص عليه الإمام الزيلعي في التبيين وذكر في الذخيرة أيضا ، فلا يصح أن يقال إن القبض في الهبة بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك ، بخلاف القبول في البيع فإنه لا يثبت الملك قطعا ، ولا يصح عقد البيع أصلا بدون تحقق القبول فيه ، وهذا الوجه الثاني قطعي في المنع كما ترى . وطعن صاحب الغاية في قول المصنف : ولنا أن القبض إلخ حيث قال : وكان ينبغي أن يقول : وجه الاستحسان ; لأنه ذكر القياس والاستحسان ولم يذكر قول الخصم في المتن فلم يكن قوله : ولنا مناسبا . ا هـ . وقصد الشارح العيني دفع ذلك فقال بعد نقله قلت : لما كان القياس هو قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ووجه الاستحسان قولنا ناسب أن يقول ولنا وإن لم يصرح بذكر nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ا هـ . أقول : إن تحقق خصم يأخذ بالقياس في هذه المسألة مما يجوز أن يقول : ولنا إيماء إلى وقوع منازع في هذه المسألة ، وأما مناسبة هذا القول وحسنه فإنما يحصلان عند ذكر مخالفة الخصم فيما قبل كما هو المتعارف المعتاد ، ومراد صاحب الغاية مؤاخذة المصنف بتقوية المناسبة في تحريره لا نفي الصحة والجواز عن كلامه بالكلية فلا يدفعه ما قاله الشارح العيني كما لا يخفى .
واعترض على الدليل المزبور بأنه لو كان القبض بمنزلة القبول لما صح الأمر بالقبض بعد المجلس كما لا يصح أمر البائع المشتري بالقبول بعد المجلس . وأجيب بأن الإيجاب من البائع شطر العقد ، ولهذا لو حلف لا يبيع فباع ولم يقبل المشتري لا يحنث ، فأما إيجاب الواهب فعقد تام بدليل أنه لو حلف لا يهب فوهب ولم يقبل يحنث استحسانا فيقف على ما وراء المجلس فيصح الأمر بالقبض وقبضه بعد المجلس ، وهذا السؤال والجواب مذكوران في عامة الشروح ، وعزاهما في النهاية ومعراج الدراية إلى المختلفات . أقول : في الجواب بحث ، أما أولا فلأنه لا يدفع السؤال المذكور بل يقرره ; لأن حاصل ذلك السؤال القدح في المقدمة القائلة إن القبض بمنزلة القبول بأنه لو كان كذلك لما صح في القبض ما لا يصح في القبول من التأخير إلى ما بعد المجلس . وحاصل الجواب بيان الفرق بين إيجاب الواهب وإيجاب البائع ، بأن الأول عقد تام والثاني شطر العقد وجعل هذا الفرق مدارا لصحة القبض بالإذن بعد المجلس في الهبة وعدم صحة القبول بالأمر بعد المجلس في البيع . وخلاصة هذا بيان لمية صحة القبض في الهبة بعد المجلس وعدم صحة القبول في البيع بعده ، وهذا لا يدفع القدح في قولهم إن القبض في الهبة بمنزلة القبول [ ص: 23 ] في البيع بل يقرر ذلك كما لا يخفى .
وأما ثانيا فلأنهم صرحوا بأن الحكم في البيع الفاسد على هذا التفصيل المذكور في الهبة لافتقاره أيضا إلى القبض كما ذكر في الكافي . وفي غاية البيان نقلا عن مبسوط شيخ الإسلام خواهر زاده : ولا يخفى أن الجواب المذكور لا يتمشى في تلك الصورة رأسا ; لأن الإيجاب في البيع الصحيح ، والإيجاب في البيع الفاسد شيئان في كونهما شطر العقد لإتمامه ، فلا يتم الفرق المزبور هناك . وأورد بعض الفضلاء على الجواب المذكور بوجهين آخرين حيث قال : فيه بحث ، فإنه لو صح ما ذكر لجاز القبول بعد المجلس بأمر الواهب ، وأيضا هذا الكلام مناقض ما تقدم من المصنف أنه عقد والعقد ينعقد بالإيجاب والقبول . ا هـ . أقول : كلا وجهي بحثه ساقط .
أما الأول فلأن الملازمة في قوله لو صح ما ذكر لجاز القبول بعد المجلس بأمر الواهب مسلمة ، فأما بطلان التالي فممنوع إذ قد ذكرنا فيما مر آنفا أنه لو قال وهبتك هذا الشيء فقبضه الموهوب له من غير قبول صح على ما نص عليه في التبيين ، وذكر في الذخيرة أيضا : فإذا صح عقد الهبة من غير قبول أصلا فلأن يصح بالقبول بعد المجلس بأمر الواهب أولى كما لا يخفى .
وأما الثاني فلأنا قد نقلنا عن البدائع فيما مر أن ركن الهبة هو الإيجاب من الواهب ، وأما القبول من الموهوب له فليس بركن استحسانا ، والقياس أن يكون ركنا ، فمدار الجواب المذكور على الاستحسان ومدار ما تقدم من المصنف على القياس فلا تناقض بينهما ، كيف وقد صرح المصنف نفسه في مسائل متفرقة من كتاب الأيمان بأن الهبة عقد تبرع فيتم بالمتبرع ، ولهذا يقال وهب ولم يقبل ، والعاقل لا يتكلم بما يناقض كلام نفسه فوجه التوفيق حمل أحدهما على القياس والآخر على الاستحسان .
( قوله : والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض ) يعني أن مقصود الواهب من عقد الهبة إثبات الملك الموهوب له ، وإذا كان كذلك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض تحصيلا لمقصوده فكان إذنا دلالة ، ونقض هذا بفصل البيع فإن مقصود البائع من إيجاب عقد البيع هو ثبوت الملك للمشتري ، ثم إذا تم الإيجاب والقبول هناك والمبيع حاضر لا يجعل إيجاب البائع تسليطا على القبض ، حتى أن المشتري لو قبض المبيع بغير إذن البائع قبل نقد الثمن جاز للبائع أن يسترده ويحبسه حتى يأخذ الثمن .
وأجيب بأنا لا نسلم أن مقصود البائع من عقد البيع ثبوت الملك للمشتري بل مقصوده منه تحصيل الثمن لا غير ، وثبوت الملك للمشتري ضمني لا قصدي فلا معتبر به ، كذا في الشروح .
أقول : لا يرد النقض المذكور رأسا ، إذ لو سلم أن مقصود البائع من إيجاب عقد البيع هو ثبوت الملك للمشتري فكذاك المقصود يحصل بقبول المشتري من غير توقف على القبض ، فإن القبض ليس بشرط لثبوت الملك للمشتري فلا مقتضى لجعل إيجاب البائع تسليطا على القبض لحصول مقصوده بدون ذلك بخلاف فصل الهبة كما تقرر ( قوله : بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق ; لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول والقبول يتقيد بالمجلس فكذا ما يلحق به ) أقول : لقائل أن يقول : إنما ألحق القبض في الهبة بالقبول [ ص: 24 ] في البيع من حيث إن حكم العقد ، وهو الملك يتوقف عليه في الهبة كما يتوقف على القبول في البيع كما تقرر فيما مر آنفا لا من جميع الحيثيات ، ألا ترى أن القبض في الهبة ليس بركن العقد بل هو خارج عنه شرط لثبوت الملك ، بخلاف القبول في البيع فإنه ركن داخل لا يتم العقد بدونه ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من أن يتقيد القبول بالمجلس أن يتقيد ما يلحق به من الحيثية المذكورة بالمجلس أيضا ، فإن تقييد القبول بالمجلس من أحكام كونه ركنا داخلا في العقد ، ولهذا لا يصح القبول بعد المجلس بأمر البائع أيضا فلا يتعدى إلى ما ليس بركن داخل في العقد وهو القبض ، وإن كان ملحقا بالقبول من جهة كونه موقوفا عليه لثبوت حكم العقد ، وإلا يلزم أن لا يصح القبض بعد المجلس بالإذن أيضا فتأمل .
والأولى في تقرير وجه الاستحسان في مسألتنا هذه ما ذكر شيخ الإسلام في مبسوطه ونقل عنه صاحب الغاية ، وهو أنه لا بد لبقاء الإيجاب على الصحة من القبض ; لأن القبض متى فات بالهلاك قبل التسليم لا يبقى الإيجاب صحيحا ، وإذا كان من ضرورة بقاء الإيجاب من الواهب على الصحة وجود القبض لا محالة كان الإقدام على الإيجاب له إذنا للموهوب له بالقبض اقتضاء كما في باب البيع جعلنا إقدام البائع على الإيجاب إذنا للمشتري بالقبول مقتضيا بقاء الإيجاب على الصحة ، إلا أن ما ثبت اقتضاء يثبت ضرورة ، والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة ، والضرورة ترتفع بثبوت الإذن في المجلس ; لأن الإيجاب يبقى صحيحا متى قبض في المجلس فلا يعتبر ثابتا فيما وراء المجلس ، بخلاف ما لو ثبت نصا ; لأن الثابت نصا ثابت من كل وجه فيثبت في المجلس وبعد المجلس . انتهى .