قال : ( ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل ) ; لأنه منفعة معلومة معهودة ( فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء ) عملا بالإطلاق . ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره ; لأنه تعين مرادا من الأصل ، والناس يتفاوتون في الركوب فصار كأنه نص على ركوبه ( وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما ذكرنا ) لإطلاق اللفظ وتفاوت [ ص: 84 ] الناس في اللبس ( وإن قال : على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان ضامنا ) ; لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فصح التعيين ، وليس له أن يتعداه ، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل لما ذكرنا . فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره ; لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت الذي يضر بالبناء ، والذي يضر بالبناء خارج على ما ذكرنا . قال : ( وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير والسمسم ) ; لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت ، أو لكونه خيرا من الأول ( وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد ) [ ص: 85 ] لانعدام الرضا فيه ( وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها مثل وزنه حديدا ) ; لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهرها والقطن ينبسط على ظهرها .
( قوله : فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء عملا بالإطلاق ) اعلم أن استئجار الدواب للركوب على ثلاثة أوجه : لأن المستأجر إما أن يقول عند العقد استأجرتها للركوب ولم يزد عليه شيئا أو زاد ، فعلى هذا إما أن يقول على أن يركب من شاء أو يقول على أن يركب فلان ; ففي الوجه الأول يفسد العقد ; لأن الركوب مما يختلف اختلافا فاحشا فيكون المعقود عليه مجهولا ، فإن أركب شخصا ومضت المدة فالقياس أن يجب عليه أجر المثل ; لأنه استوفى المعقود عليه بعقد فاسد فلا ينقلب إلى الجواز . وفي الاستحسان يجب المسمى وينقلب جائزا ; لأن الفساد كان للجهالة وقد ارتفعت حالة الاستعمال فكأنها ارتفعت من الابتداء ; لأن عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة ، فكل جزء منه ابتداء ، وإذا ارتفع الجهالة من الابتداء صح العقد ، فكذا هاهنا . وفي الوجه الثاني [ ص: 84 ] يصح العقد ويجب المسمى ويتعين أول من ركب سواء كان المستأجر أو غيره ; لأنه تعين مرادا من الأصل فصار كأنه نص على ركوبه ابتداء . وفي الوجه الثالث ليس له أن يتعداه ; لأنه تعيين مفيد لا بد من اعتباره فإن تعدى صار ضامنا وحكم الحمل كحكم الركوب في جميع هذه الأوجه كذا قالوا . ثم اعلم أن الشراح افترقوا في تعيين أن المراد بقول nindex.php?page=showalam&ids=14972القدوري : فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء ، أي وجه من هاتيك الأوجه الثلاثة ، فجزم فرقة منهم كتاج الشريعة وصاحبي الغاية ، والعناية بأن المراد بذلك هو الوجه الثاني وهو أن يقول على أن تركب من شئت ، وأن المراد بالإطلاق التعميم بدون التقييد بركوب شخص بعينه كما جزم به nindex.php?page=showalam&ids=13227الإمام الزاهدي والإمام أبو نصر الأقطع في شرحيهما لمختصر nindex.php?page=showalam&ids=14972القدوري ، وجوز فرقة أخرى منهم كأصحاب النهاية ، والكفاية ومعراج الدراية الحمل على الوجهين : أحدهما آخر أحوال الوجه الأول وهو انقلاب العقد إلى الجواز بعدما وقع فاسدا بأن يكون معنى قوله فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء لو أركب من شاء ينقلب العقد إلى الجواز بعدما وقع فاسدا .
وثانيهما الوجه الثاني كما ذكرناه من قبل . إذا عرفت هذا فأقول إن تعليل المصنف هذه المسألة : أعني قوله فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء بقوله عملا بالإطلاق يقتضي أن يحمله المصنف على الوجه الثاني فقط ; لأنه إنما يتمشى عند الحمل على الوجه الثاني لا عند الحمل على آخر الوجه الأول إذ لا شك أن علة انقلاب العقد إلى الجواز في الوجه الأول إنما هي تعيين المعقود عليه بقاء لا إطلاقه ، وإنما الإطلاق علة الفساد ابتداء .
وعن هذا فسر صاحب الكافي معنى الإطلاق هاهنا بالوجه الثاني ثم علل المسألة بما علل به المصنف حيث قال : فإن أطلق بأن قال على أن يركب أو يلبس من شاء جاز له أن يركب أو يلبس من شاء عملا بإطلاق اللفظ انتهى فتدبر . ( قوله : وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير ، والسمسم ) كلاهما مثال لما هو أقل في الضرر ، وأما مثال [ ص: 85 ] ما هو مثل في الضرر فكما إذا سمى خمسة أقفزة حنطة بعينها فحمل خمسة أقفزة حنطة أخرى ، وإنما ترك هذا في الكتاب ; لظهوره قال صاحب النهاية في شرح قوله كالشعير ، والسمسم : هذا لف ونشر ، فإن الشعير ينصرف إلى المثل ، والسمسم ينصرف إلى الأقل إذا كان التقدير فيها من حيث الكيل لا من حيث الوزن انتهى .
وتبعه الشارح الكاكي كما هو دأبه في أكثر الأحوال . وقال صاحب غاية البيان : قال بعضهم : فيه لف ونشر يرجع قوله : كالشعير إلى قوله مثل الحنطة ، ويرجع قوله : والسمسم إلى قوله أقل ، وليس ذلك بشيء ; لأن الشعير ليس مثل الحنطة بل أخف منها ، ولهذا لو شرط أن يحمل عليها مائة رطل من الشعير فحمل عليها مائة رطل من الحنطة ضمن إذا عطبت ، فلو كان مثلا لها لم يضمن ، كما لو شرط أن يحمل عليها حنطة زيد فحمل عليها حنطة عمرو بذلك الكيل ، بل قوله : كالشعير ، والسمسم جميعا نظير قوله أقل ، إلى هنا كلامه . وقال صاحب العناية : وذكر في النهاية أن في الكلام لفا ونشرا فإن الشعير ينصرف إلى المثل ، والسمسم ينصرف إلى الأقل إذا كان التقدير من حيث الكيل ، وليس بواضح فإن السمسم أيضا مثل إذا كان التقدير من حيث الكيل . انتهى كلامه .
أقول : فيه خبط واضح ، فإنه إذا كان التقدير من حيث الكيل فإنما يكون السمسم مثل الحنطة في الكيل ، ولا شك أن المراد بالمثل ، والأقل هاهنا ما هو مثل وأقل في الضرر كما صرح به في نفس الكتاب ، وإنما تكون المثلية في الضرر بالتساوي في الوزن ، والأقلية في الضرر بالقلة في الوزن ، وانتفاء التساوي في الوزن بين السمسم ، والحنطة إذا كان التقدير من حيث الكيل أمر بديهي ، فكأن صاحب العناية توهم من كون التقدير من حيث الكيل كون المثلية ، والأقلية أيضا من حيث الكيل وهو عجيب من مثله . نعم يرد على ما ذكر في النهاية منع كون الشعير مثل الحنطة في الضرر إذا كان التقدير من حيث الكيل كما أفصح عنه صاحب الغاية .