صفحة جزء
[ ص: 329 ] قال ( وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ) وقال زفر والشافعي : يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر لما روي ذلك عن علي رضي الله عنه ، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه ، لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه ، كما إذا كان الاصطدام عمدا ، أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا . ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان ، كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه ، وفعل صاحبه وإن كان مباحا ، لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان كالنائم إذا انقلب على غيره . وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا ، وفيما ذكر من المسائل [ ص: 330 ] الفعلان محظوران فوضح الفرق . هذا الذي ذكرنا إذا كانا حرين في العمد والخطإ ، ولو كانا عبدين يهدر الدم في الخطإ لأن الجناية تعلقت برقبته دفعا وفداء ، وقد فاتت لا إلى خلف من غير فعل المولى فهدر ضرورة ، وكذا في العمد لأن كل واحد منهما هلك بعدما جنى ولم يخلف بدلا ، ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا ففي الخطإ تجب على عاقلة الحر المقتول قيمة العبد فيأخذها ورثة المقتول الحر ، ويبطل حق الحر المقتول في الدية فيما زاد على القيمة ; لأن أصل أبي حنيفة ومحمد تجب القيمة على العاقلة لأنه ضمان الآدمي فقد أخلف بدلا بهذا القدر فيأخذه ورثة الحر المقتول ويبطل ما زاد عليه لعدم الخلف ، وفي العمد يجب على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن المضمون هو النصف في العمد ، وهذا القدر يأخذه ولي المقتول ، وما على العبد في رقبته وهو نصف دية الحر يسقط بموته إلا قدر ما أخلف من البدل وهو نصف القيمة .


( قوله وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ) قال في النهاية : وفي تقييد الفارسين في الكتاب بقوله وإذا اصطدم الفارسان ليست زيادة فائدة ، فإن الحكم في اصطدام الماشيين وموتهما بذلك كذلك ذكره في المبسوط ، سوى أن موت المصطدمين في الغالب إنما يكون في الفارسين ا هـ .

وقال في العناية أخذا من النهاية : حكم الماشيين حكم الفارسين ، لكن لما كان موت المصطدمين غالبا في الفارسين خصهما بالذكر ا هـ .

وقال في معراج الدراية : وكذا الحكم إذا اصطدم الماشيان والتقييد بالفارسين اتفاقي أو بحسب الغالب ا هـ .

وتبعه الشارح العيني . أقول : عجيب من هؤلاء الشراح مثل هذه التعسفات مع كون وجه التقييد بالفارسين نيرا ، فإن الباب الذي نحن فيه باب جناية البهيمة والجناية عليها . ولا يخفى أن اصطدام الماشيين ليس من ذلك في شيء فكان خارجا من مسائل هذا الباب .

( قوله وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا ) قال في العناية أخذا من شرح تاج الشريعة : فيه بحث من وجهين : أحدهما أن الخصم أيضا ترجح [ ص: 330 ] جانبه بما ذكره من المعنى . والثاني أن ما ذكرتم قياس والقياس يصلح حجة وما صلح حجة لم يصلح مرجحا . والجواب عن الأول أن ما ذكره منقوض بالواقع في البئر بمشيه فيكون فاسدا ، وعن الثاني أن القياس في مقابلة النص لا يصلح حجة ا هـ .

أقول : إن الجواب من الثاني بما ذكر ليس بشيء لأن القياس إنما لا يصلح حجة في مقابلة النص إذا لم يكن ذلك النص متروك العمل به بأن عارضه نص آخر . وأما إذا كان متروك العمل به بأن عارضه نص آخر وتساقطا كما فيما نحن فيه فالقياس يصلح حجة في مقابلته قطعا ; ألا يرى إلى ما تقرر في أصول الفقه أن الدليلين إذا تعارضا وتساقطا يصار من الكتاب إلى السنة ومن السنة إلى القياس ، وقول الصحابي إن أمكن ذلك ، ولو كان القياس لا يصلح فيه حجة في مقابلة النص الذي ترك العمل به لما صح المصير [ ص: 331 ] من السنة عند التعارض والتساقط إلى القياس إذ يكون القياس إذ ذاك في مقابلة السنة لا محالة . والصواب في الجواب عن الثاني أن يقال : مراد المصنف بقوله فرجحنا بما ذكرنا أنا رجحنا قولنا بما ذكرناه من المعقول الذي مآله القياس بعد أن تعارضت روايتاه ، لا أنا رجحنا إحدى الروايتين بما ذكرناه من الدليل العقلي حتى يتجه عليه أن ما يصلح حجة لا يصلح مرجحا . بقي هاهنا شيء ، وهو أنهم صرحوا بأن ما ذكره زفر والشافعي جواب القياس وما قلناه جواب الاستحسان ، وإذا تعارضت الروايتان عن علي رضي الله عنه وتساقطتا فكان مصيرنا في إثبات قولنا إلى ما ذكرناه من المعقول الذي مآله القياس لزم أن يكون ما قلناه جواب القياس أيضا ، فما معنى قولهم : إنه جواب الاستحسان ؟ والجواب أن الاستحسان لا ينحصر في النص ، بل قد يكون بالنص كما في السلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان ، وقد يكون بالإجماع كما في الاستصناع ، وقد يكون بالضرورة كما في طهارة الحيض والآبار ، وقد يكون بالقياس الخفي وهو الأكثر كما صرح بذلك كله في كتب الأصول ، فالمراد [ ص: 332 ] بالاستحسان في قولهم هنا وما قلناه جواب الاستحسان هو القياس الخفي المقابل للقياس الجلي فلا إشكال

التالي السابق


الخدمات العلمية