وقوله - عز وجل -:
يسألونك عن الخمر والميسر ؛ " الخمر " : المجمع عليه؛ وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر؛ وأن يكون في التحريم بمنزلتها؛ وتأويل " الخمر " ؛ في اللغة: أنه كل ما ستر العقل؛ يقال لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره: " خمر " ؛ وما ستره من شجر خاصة: " ضرى " - " مقصور " -؛ ويقال: " دخل فلان في خمار " ؛ أي: في الكثير الذي يستتر فيه؛ و " خمار المرأة " : قناعها؛ وإنما قيل له: " خمار " ؛ لأنه يغطي؛ و " الخمرة " : التي يسجد عليها؛ إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض؛ وقيل للعجين: " قد اختمر " ؛ لأن فطرته قد غطاها الخمر؛ أعني الاختمار؛ يقال: " قد اختمر العجين؛ وخمرته؛ وفطرته وأفطرته " ؛ فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر ؛ وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه؛ وليس يقول أحد للشارب إلا: " مخمور " ؛ من كل سكر؛ و " به خمار " ؛ فهذا بين واضح؛ وقد لبس على
nindex.php?page=showalam&ids=11822أبي الأسود الدؤلي ؛ فقيل له: إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال؛ فظن أن ذلك كما قيل له؛ ثم قاده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد؛ فقال:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مجزيا لمكانها
[ ص: 292 ] فإن لا يكنها أو تكنه فإنه
... أخوها غذته أمها بلبانها
وقال أهل التفسير في قوله - عز وجل -:
قل فيهما إثم كبير - وقرئت: " كثير " -؛ قال قوم: زهد فيها في هذا الموضع؛ وبين تحريمها في سورة " المائدة " ؛ في قوله:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؛ ومعنى "
فهل أنتم منتهون " : التحضيض على الانتهاء؛ والتهديد على ترك الانتهاء؛ وقال قوم: لا؛ بل تحرم بما بين ههنا؛ مما دل عليه الكتاب في موضع آخر؛ لأنه قال:
إثم كبير ؛ وقد حرم الله الإثم نصا؛ فقال:
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ؛ وإنما بينا
تحريم الخمر ؛ وإن كان مجمعا عليه؛ ليعلم أن نص ذلك في الكتاب؛ فأما الإثم الكبير الذي في الخمر؛ فبين؛ لأنها توقع العداوة والبغضاء؛ وتحول بين المرء وعقله الذي يميز به؛ ويعرف ما يجب لخالقه؛ والقمار يورث العداوة؛ والبغضاء؛ فإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه؛ وأما المنافع للناس فيه فاللذة في الخمر؛ والربح في المتجر فيها؛ وكذلك المنفعة في
[ ص: 293 ] القمار؛ يصير الشيء إلى الإنسان بغير كد؛ ولا تعب؛ فأعلم الله أن الإثم فيهما إثم أكبر من نفعهما. وقوله - عز وجل -:
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ؛ النصب والرفع في " العفو " ؛ جميعا؛ من جعل " ماذا " ؛ اسما واحدا؛ رد " العفو " ؛ عليه؛ ومن جعل " ما " ؛ اسما؛ و " ذا " ؛ خبرها؛ وهي في معنى " الذي " ؛ رد " العفو " ؛ عليه؛ فرفع؛ كأنه قال: " ما الذي ينفقون؟ " ؛ فقال: " العفو " ؛ ويجوز أن ينصب " العفو " ؛ وإن كان " ما " ؛ وحدها اسما؛ فتحمل " العفو " ؛ على " ينفقون " ؛ كأنه قيل: " أنفقوا العفو " ؛ ويجوز أيضا أن ترفع وإن جعلت " ماذا " ؛ بمنزلة شيء واحد؛ على: " قل هو العفو " ؛ و " العفو " ؛ في اللغة: الفضل والكثرة؛ يقال: " عفا القوم " ؛ إذا كثروا؛ فأمروا أن ينفقوا الفضل؛ إلى أن فرضت الزكاة؛ فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من كسبه ما يكفيه؛ ويتصدق بباقيه؛ ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في عامهم؛ وينفقون باقيه؛ هذا قد روي في التفسير؛ والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها. وقوله - عز وجل -:
كذلك يبين الله لكم الآيات ؛ أي: مثل هذا البيان في الخمر والميسر يبين الله لكم الآيات؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته؛ كما قال - عز وجل -:
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ؛ ومثل هذا في القرآن كثير؛ يحكي مخاطبة الإجماع ب " ذلك " ؛ و " ذلكم " ؛ أكثر في
[ ص: 294 ] اللغة؛ وقد أتي في القرآن في غير " ذلك " ؛ للجماعة؛ قال الله (تعالى):
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ؛ والأصل " ذلكن " ؛ إلا أن الجماعة في معنى القبيل.